رواية المصري



المصـــــــــري
الفصــل الأول
1/1
كان صهيل الخيول القادمة من الشرق وهى تهاجم الجنود المصريين يسمع من مسافة بعيدة عن ساحة القتال والتى انتشرت بها الجثث وتناثرت المعدات الحربية على مساحة شاسعة ، وكان هؤلاء الغزاة الشرقيين متوحشين أقوياء طوال الأجسام أشداء وكأنهم قد قدوا من صخور الجبال التى أتوا من خلفها ، وكأن حياة الرعي قد أورثتهم قوة تفوق قوة الجنود المصريين ، وكانت الأعداد الكبيرة المهاجمة قادرة على القضاء على الحامية المصرية التى كانت متواجدة على حدود أرض كنعان فى خلال أقل من نصف نهار

كان هذا المشهد هو آخر ما يتذكره الجندى المصري ماني قبل أن يسقط مصاباً جراء ضربة الحربة التى هوى بها الجندي الحيثي على رأسة فشجت الخوذه الحديدية التى يضعها على رأسه وسقط على أثر الضربة غائباً عن الوعي ، لا يذكر مانى كيف نجا ولا المدة التى ظل خلالها غائباً عن الوعي ، كل ما يتذكره وبشدة هو شبح أبيه محب الذي ظل يزوره فى أثناء غيبوبته ليذكره بالوصية التى أخبره بها قبل أن تسكن روحه للأبد ، ولمدة أربعة أسابيع متواصلة هى الفترة التي أخبره زملاءه الذين حملوه خارج أرض المعركة أنها استغرقتها غفوته ، فما إن أرسل الفرعون الجالس على عرش مصر قواته لمواجهة الحيثيين قرر القائد على الجيش وقتها عودة الجنود المصابين الى طيبة مع الرسل التى كان يبتعثها يومياً إلى فرعون وذلك لتركيز الجهود على المعركة الكبرى القادمة


وطوال الرحلة التى استغرقت حوالى الشهر بسبب اعداد الجرحى وطيف محب يزور إبنه يومياً ، فلما استرد ماني وعيه عزم على إنفاذ وصية أبيه كما هي ، فلما وصل إلى طيبة إستأذن ماني من قائده أن يتوجه  بعد شفاءه إلى أخيتاتون العاصمة القديمة التى بناها أخناتون وبعد موته لم يعد لها أي وجود سياسي حيث قرر توت عنخ آمون - والذي جلس على العرش بعد موت أخناتون شاباً - العودة إلى طيبة ، كان رجوع مانى لأخيتاتون أمر جوهري حيث أخفى اللفائف التى أمره أبيه بدفنها بعد عمل بعض الطقوس التى أصر محب قبل موته على اتباعها بشكل كامل 


كانت أخيتاتون تقع فى المكان الذي يعرف الآن بالمنيا موضع تل العمارنة فى صعيد مصر على الجهة الشرقية من نهر النيل ، وكانت المدينة قد خربت كل قصورها بعد موت أخناتون ورجوع طيبة كعاصمة لمصر وذلك بعد انتصار كهنة آمون على الاله الجديد وأتباعه والذي دعا له أخناتون ، لم يكن قد تبقى فى أخيتاتون غير بيوت مبنية من الطين يسكنها بعض المصريين الفقراء ، وكان من ضمنها بيت محب والذي ارتحل مانى من طيبة ليقصده حيث دفنت اللفائف ، ولم يكن مانى يقيم بهذه الدار بعد ان أنفق سنوات من عمره كجندي مخلص وفى لفرعون وخاض معارك عديدة أمام الحيثيين وأمام قبائل الصحراء الليبية


--------------------------------------

1/2

توجه مانى إلى بيته المتواضع المصنوع من الطين على حافة وادي بالقرب من طيبة ، حيث كانت أسرته تسكن وترعى ارضه ، واستقبلته زوجته نانيس والتى لم تكن قد رأته لفترة تجاوزت العام بسبب الحروب مع غزاة الشرق ، ولما وصلت أخبار التوصل لإتفاق بين الحيثيين وفرعون لتقاسم بلاد كنعان ، كانت نانيس أسعد إمرأة فى مصر كلها ، وصنعت بعض الحلوى ووزعتها على جيرانها من الفلاحين ، وأهدت هدية ثمينة لكهنة معبد الأله آمون ، لم يمضى على ذلك عدة اشهر حتى طيرت الرسل الأخبار بأن الحيثيين هاجموا الحامية المصرية الموجودة فى قادش على حدود أرض كنعان بقوات كبيرة ، ولما وصلت الأخبار نانيس يأست من رجوع ماني حياً مرة أخرى لبيته ولأولاده ، كان وصول مانى وهو مصاب هو حادث سعيد لدرجة أن نانيس شرعت فى صنع الحلوى وتوزيعها على جيرانهم

شرعت نانيس تتهيأ وتتجمل وتعد نفسها لزوجها الذي حضر بعد اشتياق طويل ، ولبثت أياماً تداوى إصابة مانى والتى عانى منها لفترة طويلة بعد ذلك اليوم ، فقد كانت تنتابه نوبات من الصرع الذي يتصلب فيها جسمه ويزبد فمه ، وكانت نانيس قد ظنت أن آلهة الحيثيين قد سحرته ، فداومت على زيارة معبد آمون وتقديم الهدايا للكهنة طلباً لشفاء زوجها ، وذات يوم أخبرها احد الكهنة وهو يحاول مراودتها عن نفسها بأن تيشوب إله الصاعقة عند الحيثيين قد أرسل صاعقة على رأس ماني وان الإصابة التى اصابت رأسه ليست سوى من أثر تلك الصاعقة ، وأنها يجب أن تهب نفسها لأحد كهنة آمون حتى يقوم آمون بصرع تيشوب على أن يكون ذلك فى ليلة يسطع فيها القمر ، كان الكاهن فى تلك الأثناء يضع يده على رأسها لمباركتها وقد تعلقت عيناه على فتحة الثوب التى تظهر مفاتنها ، ثم بعد ذلك بدأ يتغزل في جمالها وهو يخبرها أنها تشبه زوجة توت عنخ آمون التى كانت على وشك الزواج من إبن ملك الحيثيين قبل أن يتم الفتك به لعدم إتمام مثل تلك الزيجة التى كانت ستضعه على عرش مصر ، كان يخبرها ذلك وهو يتمتم آمون هذه هي بنتك قد جائت معبدك تتقرب لك بجسدها فاقبلها وامنحنى شرف مباركة كل جزء من جسمها بنفسي ، فى تلك الأثناء كا يمرر يده على عنقها

كانت نانيس من الفطنة والمهارة لتقرأ الرغبة المتأججة فى عيني الكاهن وفى سخونة أنفاسه التي كان تلفح وجهها ، ولكن خشيت أن قاومت نيران الرغبة التى تأكل جسده لدرجة ارتعشت معها يده الموضوعة على رأسها وعنقها ، خافت ان تتهم بأنها من أعداء آمون وخاصة بأن الجميع مازال يذكر تاريخ الماضي القريب وتاريخ محب والد زوجها ماني والذي كان يعد من أنصار أخناتون ، فاصطنعت الإنصياع لما يقوله الكاهن وواعدته ان تلتقيه بالمعبد بعد ثلاثة أيام حيث يكون القمر ساطعاً وتكون هي قد تجملت وتهيأت وأعدت نفسها كهبة لآمون ، لم يكن ذلك سوى خدعة منها حتى تهرب من رغبة ذلك المتنمر ، ولحسن حظها لم يكن الكاهن فى حال عقلى أسوأ من ذلك لذا لم يفطن لما تخطط له ، فقد ارتفعت حرارة الرغبة عنده لدرجة قد غلفت عقله برداء سميك من الغباء

أثناء عودة نانيس إلى الوادي الذي يقع فيه بيتها على حدود طيبة ، كان كل ما يشغل عقلها أمر واحد ، هل كان والد زوجى محب على حق حين انضم لأتباع آتون ، لم تكن نانيس مهتمة فى يوم ما بمثل تلك الصراعات ، وكان شغلها الشاغل هو تربية أولادها تربية صالحة فى غياب زوجها المستمر بسبب عمله كجندى ، ولكن اليوم خالطها شعور غريب بالخوف من آمون ، وبدأت الأفكار تتصاعد والذكريات القريبة تمر من أمام عينيها ، وقبل أن تصل إلى بيتها كانت قد وصلت لقناعة بأن آتون هو اله الخير هو ورجاله ولكن الشر هو الذي انتصر وقررت عدم تنشأة أولادها فى رعاية آمون بعد الآن ، وقررت نانيس عدم إخبار زوجها عما حدث بسبب حالته الصحية وخوفاً من أن يتعرض للكاهن بأذى فيقتل لإستهانتة وتعديه على معبد آمون 

عندما وصلت نانيس للبيت كان ماني ينتظرها فى جلسته أمام الدار فما إن رأته من بعيد حتى بدأت الدموع تنسكب على خديها وهى تقول لنفسها ماذا أفعل بدونك يا زوجى وسيدي وحبيبى ، وبدأت تبتهل لآتون ولأول مرة أن ينجى زوجها من الصاعقة التى أصابته ، وما ان وصلت حتى ارتمت على زوجها تقبل يديه وقدميه وبكاءها قد زاد ثم تقبل رأسه وهى تقول من لى سواك يا مانى ، لا تتركنى ، وجلست على الأرض وتوجهت ناحية الشمس ورفعت يدها قائلة آتون لك الشكر يا اله الزرع والحصاد ، يا اله الخير ، اشكرك ان رددت لماني صحته ، عندما سمع مانى هذا منها انتفض وسحبها من يدها إلى داخل الدار وأغلق الباب غاضباً وهو يهمس انتبهي فجواسيس فرعون قد تشي بنا لو سمعوا كلامك هذا ، ولكن نانيس ارتمت عليه قائلة انت عندى أغلى من حياتي فليأخها آمون لو كانت هي ثمناً لشفاءك ، ولكنى اليوم ادركت ان آتون هو اله الخير وأتباعه هم المؤمنون الأطهار 

عندها أخذ مانى بيدها وأجلسها على الأرض بجواره وطوق خصرها بيده اليمونى وأمسك بيده اليسرى كفها الأيمن وهو يقول ، حبيبتى وزوجتى وأمى سأخبرك بأمر هام ، كانت عينيه معلقة بعينيها ويشع منهما حب أنار جنبات الدار ، ثم أردف قائلاً ، لقد زارنى مرة أخرى يا نانيس ، لقد زارنى محب طوال غيبوبتى وطلب تنفيذ تلك الوصية التى أخبرنى بها يوم موته ، كان مانى قد أخبر نانيس من قبل منذ سنوات عن تلك الوصية ولكن نانيس طلبت منه ان لا يهم بشئ حتى لا يقبض عليه بتهمة اتباع دين أخناتون ، وطلبت منه وقتها ان يدفن كل اللفائف وان يتركوا إخيتاتون للأبد 

ما إن انتهى ماني من كلامه حتى تركت نانيس يده وانكبت على قدمه تقبلها وهى تقول ، قم من الآن فنفذ وصية محب ولك كل حبى يا زوجى وسيدي ومخلصى ، وأنا معك أطلب منى ما تشاء فلن أتوانى عن تنفيذ وصية ذلك الرجل المؤمن الطاهر مهما كلفتنى
------------------------------------

1/3


الغريب أنه ومنذ ذلك اليوم اختفت نوبات المرض التى كانت تعاوده وإن كان لايزال يعاني من بعض الآلام فى الرأس ، ولكن نانيس كانت قد وصلت لدرجة من القناعة أن آتون سيرزقه الشفاء ، وها هو زوجها لأول مرة يسترد كامل وعيه ويذهب إلى السوق ليقوم بعملية المقايضة الإسبوعية فى يوم الشمس ليبتاع إحتياجات الدار وها هو يذهب مع إبنه نفر وبنته ميريت إلى الحقل ويقود الثور بنفسه ، وبدأ الإيمان بالإله آتون يتحول فى قلبها إلى عقيدة راسخة ، حتى كان يوم واثناء فترة الظهيرة حيث عاد ماني من الحقل وترك الشاب نفر وميريت الصغيرة بالحقل وعاد إلى الدار على غير موعد .. حيث اشتاق زوجته نانيس

ما إن وصل إلى الدار وكانت الدار بعيدة عن الحقل ومرتفعة فوق أرض الوادي المزروعة حيث لا يصل إليها مستوى الفيضان فلا تخرب البيوت ، إلا ولمحته نانيس أثناء جلوسها على مغزل الكتان الذي تضعه أمام الدار ، وكانت قد اشتعلت الرغبة فى نفسها ، فمنذ وصوله لم يتح لهما الإختلاء معاً بسبب مرض ماني ثم بسبب إنشغاله بإدارة الحقل ومتابعة عمليات المقايضة مع الجيران وفي السوق بسبب قرب موعد الفيضان السنوي والذي سيعطل الأرض لعدة أشهر ، فكان يتوجب عليه العمل بكد على تجهيز الدار بما تحتاجه خلال موسم الفيضان ، لما رأته قادماً من بعيد وليس معه الأولاد تركت الكتان جانباً وربطت خيط المغزل وأسرعت لداخل الدار فخلعت ثيابها المتسخة وارتدت ملابس بيضاء ناصعة ومطرزة ووضعت بعض من العطر الذي قايضته بكمية كبيرة من الشعير اليوم التالى لوصول ماني ، ثم تكحلت من مرودها الذي تخفيه عن ميريت ووضعت إسورة من الذهب حول معصمها

لما دخل ماني إلى فناء الدار لم تكن عينه بعد قد اعتادت قلة الضوء داخلها نظراً لأن النوافذ الأربعة الصغيرة والمحفورة قرب سقف الدار لم تكن كافية لتأمين إضاءة تعادل الضوء خارج الدار ، لذا استغرقته دقيقتين حتى تعتاد عيناه الضوء فى فناء الدار ، وما إن وقعت عيناه على نانيس واقفة أمامه كأميرة فرعونية فى أبهى زينتها حتى تأججت الرغبة عنده فاقترب منها وأمسك يدها وهو ينظر فى عينيها فى حب قائلاً ، كم أحببتك أول يوم رأيتك فيه واليوم يا مليكتى وصديقتى وزوجتى وعشيقتى أحبك اكثر من ذلك اليوم ، ثم انه عانقها عناقاً طويلا أسلمت نانيس خلالها نفسها له وذابت روحها فيه من فرط حبها له ، ودخلا فى نوبة من العشق الذي حرما منه لأكثر من عام

لما هدأت نشوة الحب وكانت نانيس مازالت تحتضنه فى حنو بالغ وفى دلع أنثوي لم تمارسه منذ زمن ، نظرت في عينيه بحب قائلة فى همس زوجى الحبيب انت اليوم فى صحتك كلها وحبى لك فى أقصى درجاته والفضل لآتون ... فمتى يا زوجي الحبيب ستنفذ وصية محب والدك؟ 

قبلها ماني بين عينيها أن وجدها لم تنس الوصية بل وتشجعه على الوفاء بها ، ومرر أصابعه على خدها الأيسر قائلاً ، أخاف أن اتركك بعد أو وجدتك مرة أخرى يا مليكتي

لكن رد نانيس كان قاطعاً ، بل لن تفقدنى أبداً بعد اليوم ، ولكن علينا برد جميل آتون وعلينا بإنفاذ رغبة محب ، علت وجه ماني إبتسامة حب مع إطمئنان بعد أن رأى التصميم فى عيني نانيس ، فطلب منها البدء على الفور فى تنفيذ الوصية ، فقامت نانيس بإحضار ماء حتى يغتسل ماني وكذلك هي وبعد ذلك جلس ماني وإلى جواره نانيس متجهين ناحية الشرق للصلاة الأولى

كان تنفيذ الوصية كما أخبرها مانى يتطلب البدء بالصلاة لآتون بالإثنى عشر صلاة التى علمها محب له يوماً فى إخيتاتون ، ومازال ماني يحفظها عن ظهر قلب ، وعلى فترات متباعدة وعندما كان يختلى بنفسه بعيداً عن أعين الجنود كان يرتلها فى صمت ، وفى همس حتى لا يسمع الجيران الذين يرتكز حائط دارهم على حائط داره لما يقومون به رفع ماني يده وكذلك فعلت زوجته قائلاً الصلاة الأولى وبدأ يتلو وهي تردد خلفه 

"اللهم تبارك خلقك وحل حلالك فى أفق السماوات العلى ، أيها الحي القيوم آتون مبدع الحياة ، ومنشئ الخلق ، إذا بزغ نورك بورك وأصلح صبحك ، ملأت الكون جمالاً .. لأنك جميل بديع وهاج تضئ ما حولك من الكون وأنت فى كبد السماء ، وتكشف اشعتك الأصقاع والبقاع وما خلقت من الكائنات ، أنك أنت رع اللطيف الشفيق الذي أسرت ما حولك وجمعت شتات جائتك بمحبتك وعطفك ، ومع أنك ناء عن الأرض فإن أشعتك تصل إليها ، ومع أنك متعال فإن أثرك ينجلي فى بزوغ النهار"

-----------------------------------------------------
1/4

دقت الساعة الخامسة على الساعة المعلقة على الحائط الواقع خلف المرأة النحيفة ذات الشعر الأسود القصير والبشرة البيضاء ، فوضعت العدسة المكبرة التى كانت تستخدمها أمامها على الطاولة المستطيلة والتى كان يتحلق حولها ثلاثة رجال غيرها ، وإن كان صوت الهمهمات التى تعالت كان ينم عن رغبة الرجال فى استكمال العمل ، ولكن المرأة الفرنسية النحيفة والتى كانت تدعى أوجيني قالت فى لهجة قاطعة ، مسيو فابيان أعتقد اننا بحاجة للراحة حتى نستطيع إكمال العمل بالجودة المطلوبة وخاصة أن تلك اللفائف فى حالة سيئة بجانب وجود أجزاء منها قد كتبت باللغة السنسكريتية بجانب اللغة الهيروغلفية القديمة ، وهذا يتطلب جهداً مضاعفاً ، كانت توجه حديثها لرجل فى منتصف الخمسينات من عمره ذو بشرة بيضاء وشعر أشقر والذي كان يجلس على يمينها

أومأ فابيان برأسه علامة الموافقة على رأيها وإن كانت ملامح وجهه تنم عن شغف يكاد يفتك به لمعرفة ما تحويه تلك اللفائف والتى يمكن أن تجعل فريق العمل يتصدر عناوين الأخبار لأشهر ، ولكنه على مضض قبل رأى أوجيني ، ثم نظر إلى الشخص الجالس على يمينه والذي يبدو من هيئته أنه عالم متمرس فقد كان يضع نظارة سميكة ذو شعر طويل ويرتدى ملابس غير مهندمة ذات الوان غير متسقة ، وكان هو من يقوم بتصويب ما قد يحدث من خطأ أثناء عمل أوجيني من ترجمة ، نظر إليه قائلا مسيو هنرى أعتقد أن هذا هو الرأى الصواب 

لكن هنرى قال له وهل تعتقد أننا نملك رفاهية الوقت يا مسو فابيان ، نحن فى صراع مع الوقت لكشف ما تحويه تلك اللفائف لأنها قد تغير من قرائتنا لتاريخ البشرية بما تحويه من أسرار تكشف لأول مرة ، ثم وجه نظره ناحية أوجيني قائلاً ، لا أعتقد سيدتى أنك ستنامين الليلة لو تركنا هذا الأمر معلقاً هكذا ، ثم نظر إلى ناحية الشخص الرابع الذي ظل صامتاً طوال الوقت وهو يقول ما رأيك مسيو نور قالها بالإنجليزية لمعرفته بأن نور لا يتحدث الفرنسية وإن كان ملماً ببعض الكلمات وكان نور ذو ملامح شرق أوسطية فى عقده الثالث ، مفتول العضلات ، يرتدى جاكيت مصنوع من الجلد الأسود رخيص الثمن

أجابه نور أعتقد اننا بحاجة للراحة بعد ما مررنا به خلال الأيام الماضية حتى نستطيع إيصال اللفائف إلى هنا ، فلا بأس من إكمال العمل غداً ، ولكن أين سنضع اللفائف لأن هناك من يبحث عنها الآن ، ولا اعتقد أنه من الصواب الخروج بها من هنا

إبتسمت أوجيني وهي تنظر إلى نور قائلة بإنجليزية يغلب عليها اللهجة الفرنسية ، مسيو نور لا تقلق فهنا أكثر مكاناً أمناً على وجه الأرض فلن يستطيع هؤلاء الأشخاص الوصول لهذا الكنز مهما حاولوا فلا تقلق ، بل إنى اعتقد انك انت من يتوجب علينا الخوف عليه لأن الوصول لك اسهل من الوصول لهذه اللفائف ، ولا أعرف ما هي ترتيبات المتحف للمحافظة على سلامتك الشخصية

أومأ فابيان برأسه علامة على الموافقة على كلامها ، فى حين أضاف هنرى اعتقد ان كلام أوجيني صحيح 

التقط فابيان سماعة الهاتف وطلب رقماً هاتفياً وعندما جاءه الرد من الطرف الآخر عرف نفسه بأنه رئيس المعمل فى متحف اللوفر والمشرف على مشروع لفائف السيد نور المصري ، وطلب معرفة كافة الترتيبات الخاصة بإقامة السيد نور

وضع فابيان السماعة قائلاً للحضور السيد روجيه مدير الأمن سيأتى الآن ليشرح للجميع خطة تأمين جميع أفراد الفريق

----------------------------------------------------------------------
1/5


لم يمر سوى عدة دقائق حتى كان روجيه يطرق باب غرفة المعمل ، وقابله فابيان بالترحاب قائلاً ها هو مسيو روجيه الذي سيتكفل بتأمين المشروع بأكمله ، ثم اشار فابيان إلى روجيه ليجلس بجوار نور الذي مد يده ليصافحه وكان روجيه تعلو وجهه إبتسامة زهو بالنصر الذي هم على وشك تحقيقة وكانت سعادته بأنه فرد فى فريق العمل لا توصف ، اتضح ذلك من حرارة مصافحته لنور ، وكان التصميم والحماس والعزم على الذهاب بعيداً فى هذا المشروع بادياً على وجهه

إستأذن روجيه من فابيان أن يستخدم شاشة العرض وبدأ فى عرض خطة التأمين ، والحق أن روجيه كان بارعاً فى عمله ، فقد قسم الخطة لثلاث خطط متوازية وذلك لضمان نجاح المشروع على الوجه الأكمل وبدأ يعرض تلك الخطط قائلا .. وضعنا تصوراً لثلاث خطط وانتهينا من جميع الإجراءات الخاصة بالثلاثة وسأعرض لكم هذه الخطط الآن لأن خلف هذا الباب واشار لباب غرفة الإجتماع ... عالم آخر سنخلقه وستحيونه طوال فترة المشروع 

الخطة الأولى .. وهى خطة تأمين أفراد العمل بالكامل ، وهذه الخطة وضعت لضمان سلامة افراد الفريق الشخصية 
الخطة الثانية .. وهى الخطة المتعلقة بتأمين اللفائف وخاصة أن تلك اللفائف قد خرجت من مصر بطريقة غير قانونية وهناك من يسعى خلفها
الخطة الثالثة .. لتأمين سرية العمل بالمشروع وسرية النتائج وذلك حتى يتم الإعلان عنها بشكل رسمي 

بدأ روجيه فى عرض تفاصيل خطة تأمين أفراد الفريق والتى كانت تقضي بعدم إقامة فريق العمل فى منازلهم طوال فترة العمل فى المشروع ، وتم التنسيق مع شرطة باريس بعد عرض المشروع على عمدة باريس والذي تحمس للمشروع لما فيه من إنجاز حضاري يوشك أن يتحقق ، تم التنسيق على تزويد جميع أفراد الفريق بهويات شخصية بديلة بأسماء بديلة ، وتم حجز غرف للفريق فى ثلاث فنادق مختلفة على أن يقيم نور مع أوجيني على أنه زوجها الجزائري فى فندق ديزنى لاند وتم التنسيق مع إدارة الفندق لحجز غرفة مزدوجة لهما على أن تجهز لعروسان فى شهر العسل وايضا على أن يمنع الإزعاج تماماً وعلى أن تكون بعيدة عن الزحام وتطل على حمام السباحة

توجه روجيه ناحية نور قائلاً .. ارجو ان تتقبل مثل هذا الترتيب فهذا سوف يقلل المخاطر التى قدد تتعرض لها بسبب عدم درايتك باللغة الفرنسية ، ثم التفت ناحية أوجيني قائلاً هل تمانعين فى هذا الأمر ، فردت أوجيني كلاً طالما سيؤمن هذا لنا قدراً من الأمن لنعمل على المشروع ، قبل نور على مضض هذا الترتيب ، ونظرت له أوجيني قائلة .. نور لا تخف فأنا لا أصدر أصواتاً وأنا نائمة وضحكت وضحك جميع أفراد الفريق

أكمل روجيه قائلاً ، ويتوجب عليكما يومياً التوجه للفندق لتناول الطعام ثم مغادرته فى خلال ثلاثون دقيقة إلى مدينة ألعاب ديزنى القريبة على ألا تغادروا المدينة قبل الساعة الحادية عشر مساءً إلى الفندق للنوم وذلك بغرض تقليل فرص تتبعكما من قبل المتطفلين ، سيكون بداية العمل يومياً هنا فىالساعة الثامنة صباحاً

ثم أكمل .. أما فابيان فسيقيم فى فندق فى الشنزليزيه ، وهنرى فى فندق بالقرب من كازينو مولان روج حتى يتسنى لهم حرية الحركة باستخدام المترو القريب ، وقد تم عمل جميع الترتيبات الخاصة بالفندقين 

أضاف روجيه سيتم تزويدكم بهواتف مؤمنه ضد التتبع والإختراق وكذلك بأجهزة حاسب آلي ، ونظر نحو نور قائلاً مسيو نور يمكنك أن تهاتف أهلك فى مصر لكن بدون إخبارهم عن مكان تواجدك حرصاً على سلامتك وسلامة اللفائف وبالطبع سلامة جميع أعضاء الفريق ، نظر روجيه إلى باقى أعضاء الفريق مضيفاً .. أيضا سيتم تزويدكم ببطاقات إئتمان خاصة بالهويات الجديدة ويمنع تماماً حمل أي مستندات شخصية طوال فترة المشروع ، أيضاً يمنع استخدام البريد الإلكتروني الشخصي بشكل تام وسيتم تزويدكم ببريد يخص المشروع لإستخدامه فى التواصل بين جميع أفراد الفريق

اختتم روجيه تفاصيل الخطة الخاصة بتأمين أفراد الفريق قائلاً .. أنها ترتيبات وأمور كثيرة قد تجعلكم تحت الضغط العصبي طوال فترة المشروع ولكن يجب مراعاتها حرصاً على سلامتكم وأنتم كما تعرفون قيمة المشروع الذي أنتم بصدده والذي قد يغير الكثير من الحقائق السائدة لذا أشكر تفهمكم وتعاونكم

بدأ روجيه يعرض الخطة الثاني والخاصة بتأمين اللفائف قائلاً .. جميع اللفائف ستحفظ اليوم فى خزينة بالطاق السفلى وستؤمن الخزينة ببصمات جميع أفراد الفريق الخمسة ، ولا تفتح الخزينة بدون وجود ثلاثة من أعضاء الفريق على أن يكون من ضمنهم مسيو نور وسيتم ذلك قبل مغادرة المتحف اليوم ، ولكن قبل ذلك سنبدأ عملية مسح ضوئي لجميع المستندات وسيتم تشفير جميع الصور بشفرة خاصة مكونة من خمس كلمات سرية يحمل كل فرد من افراد الفريق احداها ولا تفتح المستندات بدوت ثلاثة أعضاء من الفريق معاً هذه المرة أى ثلاثة أعضاء 

أما الخطة الثالثة والمتعلقة بتأمين سرية العمل بالمشروع وسرية النتائج وذلك حتى يتم الإعلان عنها بشكل رسمي فستكون من خلال توقيع جميع أفراد الفريق على أتفاقية سرية معلومات ، وتوقيع مسيو نور الإتفاق الخاص بمشاركة اللفائف التى يمتلكها مع المتحف وعلى المقابل النقدي ويتضمن أيضا اتفاقية سرية معلومات 

عندما جاء على ذكر الإتفاقية استوقفه نور قائلاً عذراً روجيه فأنا إتفاقي مع مدير المتحف كان خلافاً لذلك 

سأله روجيه عن الخلاف ... أجاب نور كان الإتفاق ينص على حصول الحكومة المصرية على أصل اللفائف بعد ترجمتها ونشر نتائجها مع احتفاظ اللوفر بنسخة مقلدة منها ، وانا لست مستعداً لتغيير هذا الإتفاق الآن

إبتسم روجيه قائلاً ، نعم لقد علمت بهذا وبالفعل عقد الإتفاق ينص على ذلك سيد نور فلا تقلق ، ثم نظر روجيه لبقية أفراد الفريق مستفسراً عن أي أسئلة أخرى قبل الإنتقال لمرحلة التنفيذ ، ولكن الفريق كان على أستعداد لبدء التنفيذ وقد اكتست ملامح وجوههم بالإصرار وروح التحدي

شكر روجيه الفريق قائلاً .. لنبدأ على الفور التنفيذ

-----------------------------------------

المصـــــــــري
الفصــل الثاني


كانت جموع رواد المقهى القريب من الجامع الكبير والموجود فى قرية الشبول القريبة من بحيرة المنزلة فى محافظة الدقهلية فى تزايد مستمر ، وبين الحين والآخر يتعالى صوتهم وكأنهم يشجعون فريق الكرة المصري ، وإن كان تحلقهم كان حول شاب فى الثلاثين من عمره منصتين له بكل حواسهم وهو يقص عليهم ما حدث له والمغامرات التى مر بها خلال الشهر الماضي

كان من ضمن الرواد رجل عجوز قد تخطى السبعين من عمره وترك الزمن آثاره على وجهه ، وحفرت الحروب التى مر بها والأحداث على وجهه أثاراً تحكي ما مر به ، وقد عاصر فى طفولته بطولات الفدائيين فى المنزلة ، وسمع من جده وهو صغير حكاية احتراق المنطقة بأكملها وزيارة الخديوي فى أوئل القرن الماضي وما زال يذكر شيخ المسجد الذي قتل بقنبلة فى العام 1956 ، وكذلك أسرة عمه التى قتلت كلها بسبب التفجير الناجم عن القنبلة التى ألقيت على بيتهم وهو ما زال طفلاً فى ذلك الوقت

كان هذا الشيخ الطاعن فى السن عم حسين ذو ذاكرة قوية لم يفلح الزمان فى محوها بعد ، بالرغم من إنحناء ظهره وضعف جسمه ، لكنه كان يداوم على قص حكاية أبيه فى بحر كساب أيام العدوان الثلاثي وكيف كان يقوم أبوه بتهريب الأسلحة هو والفدائيون فى بحر كساب بالمنزلة بواسطة مراكب الصيد تحت الأسماك ، وكان من ضمن تلك الحكايات التى يرددها على مسامع رواد المقهى حكاية استقباله هو وأبيه للرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، وكان عم حسين وقتها فى مقتبل عمر الشباب ، ويحكي أن مراكب الصيادين اصطفت بالآلاف فى استقبال الرئيس ، وحكى كيف زين أبيه المركب ذلك اليوم واستعان به لطلائها باللون البيض والأحمر وكيف صنع الأعلام وقتها وزين بها المركب ، وكيف جاء الرئيس بلنشه إلى بحيرة المنزلة ومر من خلال المراكب المنتظرة على الصفين

فى ذلك اليوم توقف عم حسين تماماً عن ترديد حكاياته ، وانضم إلى رواد المقهى المتحلقين حول نور وهو يحكى كيف أوصل تلك اللفائف إلى متحف اللوفر بعد مطاردات من تجار الآثار فى سقارة وبعد دخول تجار آثار أجانب فى محاولة للحصول على اللفائف ، وكان الجمع يستمع بكل حواسه وتنطلق من عم حسين صيحة بطل يا نور بين الحين والآخر ونور يحكي كيف استطاع الوصول إلى أوجيني من خلال صديقه كريم والذي يعمل فى شرم الشيخ حيث كانت تقيم هناك فترة عقد مؤتمر دولى عن السياحة والآثار ، حيث كانت ستلقى كلمة عن بحث جديد عن آثار سيناء فى فندق كاتاركت فى خليج نعمة ، وكيف أنها حضرت على الفور إلى بورسعيد حيث التقاها نور هناك وتم عقد الإتفاق معها بعد تواصلها مع مدير متحف اللوفر ، واستطاع هما الإثنان تدبير أمر خروج الوثائق من مصر وسط خرائط هندسية متعلقة بالإنشاءات فى قطر من خلال شركة مصرية تعمل على إنشاءات الملاعب فى قطر والخاصة بكأس العالم وذلك بالتنسيق مع السفارة الفرنسية فى القاهرة ، ومن هناك تم التنسيق مع السفارة الفرنسية لإرسال اللفائف إلى باريس باستخدام بريد السفارة 

توقف نور عندما أخبرهم بأنه أقام مع اوجيني على انه زوجها الجزائري فى نفس الغرفة فى فندق ديزني لاند ، وهنا صاح عم حسين ، اوعى تكون يا نور ضعفت يا إبنى ، ده انا مربيك وانت صغير ، لكن نور أخبره أن الله دائما يقف معه لذلك وبالرغم من وجوده معها فى نفس الغرفة ألا أنه حرص على الصلاة باستمرار والدعاء أن يثبته الله ، واضاف نور يا عم حسين ما تخفش على نور أنا عارف ربنا كويس ، انت نسيت لما هاجمنى التعبان وانا باغطس من أجل الصيد فى بحيرة المنزلة والسلاسل على جسمى وكنت على وشك الموت لولا رحمة الله بأمى وأخوتى الصغار الذين ليس لهم غيري ، انا يا عم حسين أعرف الله واراقبه دوماً

صاح عم حسين الله يا نور كمل يا بنى .. أنت بطل 

أكمل نور ما مر به منذ أن وصل إلى باريس اليوم الأول ، والإتفاق الذي توصل له مع مدير المتحف ... وعلى عكس ما كان ينتظره الحضور من مغامرات مثيرة قد مر بها نور فى باريس .. إلا أنهم خاب ظنهم عندما أخبرهم نور ان الأمور سارت فى باريس فى هدوء تام ، ولكن ما تم الكشف عنه فى اللفائف بالفعل كان اكثر إثارة من كل ما مر به وسوف يغير الكثر من الحائق الراسخة منذ الاف السنين 

أستوقف عم امين صاحب المقهى نور قائلاً .. اين وجدت هذه اللفائف يا نور؟

قال نور سأحكى لكم .. وبدأ نور يقص القصة من بدايتها

-------------------------------------------------
المصـــــــــــــــــــــــــــري
الفصــل الثاني
2/2


أعلنت إدارة فندق الفور سيزونز والواقع في شارع جورج الخامس على بعد خطوات من أشهر شوارع باريس .. الشانزليزيه ، اعلنت حالة الطوارئ فى الفندق إستعداداً لاستقبال حدث مهم لم يكن على جدول الأعمال ، وكان على جميع العاملين بالفندق وقف الإجازات المخطط لها من قبل والإستعداد لإستقبال الأعداد الكبيرة من الزوار الذين بدأت تصل طلبات حجوزاتهم طوال فترة المؤتمر ، وتسارعت وتيرة العمل فى الفندق لتجهيز المساحة المخصصة للمؤتمر والقاعات الإضافية المخصصة للإجتماعات المزمع عقدها على مدار أسبوع كامل ، كان جاك العامل فى استقبال الفندق يخبر كيت خطيبته بذلك على الهاتف وهو يعتذر لها عن السفر لسويسرا كما كان مخططاً لقضاء شهر العسل كما جهزا ، ولكن كيت لم تكن من هذا النوع من النساء الذي يتقبل مثل هذا الأمر بسهولة

كان إختيار هذا الفندق لعقد المؤتمر هو إختيار فريد وراقي وذلك لتميز القصر الأسطورى بفخامته وبالأثاث والسجاجيد المعلقة الأثرية والثريات الثمينة واللوحات الجدارية القديمة ، ولم تنس الإدارة تزويده بنظم الإضاءة والصوت العالمية ، وكذلك تميزت إدارة الفندق فى تنظيم وإدارة المؤتمرات الدولية بما توفره من جميع الإحتياجات التكنولوجية الحديثة ، حقاً كانت إدارة الفندق تتعامل مع مثل تلك المؤتمرات كعمل فنى يجب إبراز الجانب الجمالى له بجانب الجانب العملى أو العلمى طبقاً لطبيعة المؤتمر

شمل برنامج استقبال الضيوف بالفندق تقديم هدايا للضيوف تشمل زجاجة شمبانيا وحافظة أوراق جلدية وهدايا من المنتجات الفرنسية المختلفة وأيضا يشمل البرنامج عمل جولات سياحية لمعالم باريس للضيوف مع وجود مرشد سياحي من الفندق وجولات تسوق فى منطقة سان جيرمان فى الفترة المسائية وكذلك زيارة قصر وحدائق فيرساي ، حقاً كان الإختيار الأمثل لمثل تلك الإحتفاليات وبخاصة أن البرنامج كان يختتم بدعوة الحضور لعروض الأزياء الفرنسية الخاصة التى ينظمها الفندق على حمام السباحة المغطى ذو الجدارية التى تضفى البهجة بسبب مناظر الأشجار والتى تعانق التماثيل الرائعة المرصوصة أمامها

كان المؤتمر الذي يجرى التجهيز له على قدم وساق سيعقد فى صالون فيندوم الفخم ذو الحوائط المغطاة بألواح ذهبية وتتدلى من السقف الدائري ثريا ضخمة مصنوعة من الكريستال النقي الفخم ، وكانت القاعة مزوده بطاولات فخمة ومقاعد فضية وعليها زهور بنفسجية تضفي على الجو لمحه خيالية وخاصة عندما كانت تسقط عليها إضاءة الشموع المرصوصة على المناضد ، بالفعل كانت الإدارة حريصة على إخراج عمل فني اكثر منه مؤتمر علمي

اختار المنظمون الشعار المعلن للمؤتمر والذي تم دعوة الحضور له وكان "كشف أسرار فرعونية جديدة" ، كان هذا الشعار كفيلاً بجذب عدد كبير من المختصيين من الجامعات والمتاحف المختلفة حول العالم ، وخاصة علماء المصريات ، وكانت المقدمة التى زينت وجه بطاقة الدعوة كفيلة بإشعال الشغف فى قلوب وعقول المختصين من علماء المصريات وتجار ومهربى الإثار ومختصى المزادات وخاصة قاعة كريستي ، وقبل أكثر من ساعتين من بدء المؤتمر بدأت أعداد كبيرة من الصحفيين تصل إلى الفندق حرصاً على عقد مقابلات مع ضيوف المؤتمر لمجلاتهم ، والغريب انه لم تكن هناك أي معلومات متوفرة لدى الجميع عن إسم المتحدث فى المؤتمر

فى التوقيت المحدد تماماً لافتتاح المؤتمر خفتت الأنوار الساطعة فى جنبات قاعة الإجتماعات الفخمة وأضاءت جنبات المسرح المعد ، وبدأت موسيقى فيردي أوبرا عايده فى العزف بشكل أضفى على القاعة جواً من الغموض والرهبة ، لم تمض غير دقائق معدودة حتى خفتت أضواء المسرح وظهر رجلاً فى بدله رسمية لا تظهر ملامحه بشكل كامل بسبب خفوت الإضاءة ، ثم فجأة توقفت الموسيقى وبدأ الرجل الحديث قائلاً

كنا نعتقد أن جيش فرعون قد غرق عندما طارد فرعون بني إسرائيل شرقاً وذلك عندما ضرب موسى البحر بعصاه وعبرت بنى إسرائيل بحر سوف، ولكن اليوم سنكشف لكم عن حقائق علمية موثقة تُكشف لأول مرة تثبت عدم غرق جيش فرعون بأكمله .. وتغطي فترة ما بعد غرق فرعون تلك الفترة التى لم تكشف عنها وثائق من قبل ، عندما أنهى الرجل المقدمة الغامضة والمشوقة .. ارتفعت الأصوات فى القاعة على غير المعتاد فى مثل تلك المحافل ، ثم عزفت الموسيقى بشكل متسارع لترفع وتيرة الغموض والشغف لدى الحضور

----------------------------------------------------

المصـــــــــــــــــــــــــــري
الفصــل الثاني
2/3

بعد هدوء أصوات الحضور توقفت الموسيقى عن العزف وأظلمت القاعة تماماً ، وظهرت على شاشة العرض التى كان يقف المتحدث على اليمين منها خريطة مصر الفرعونية القديمة والتى يتوسطها نهر النيل ، وبدأ عرض فيلم وثائقي لعصر الأسرات الفرعونية الأولى إلى الثالثة وأهم ملوكها وأهم إنجازات هؤلاء الملوك وعرض المتحدث بسرعة لتوحيد القطرين المصريين على يد نارمر ، ثم انتقل إلى عصر بناة الأهرامات وعرض مخطوطات الأهرامات البدائية والمصاطب ثم عرض إلى مخطوطات هرم زوسر كأول محاولة ناجحة لبناء هرمي

بحماسة شدية بدأ المتحدث يعرض نبذه عن أول مهندس معمارى على الأرض .. إمحتب ، والذي صمم هرم زوسر كمقبرة على شكل ست مصاطب ترتفع فوق نفق يصل إلى غرفة الدفن ، ثم أضاف المتحدث من عنده قائلاً ... والغريب أن إمحتب كان أيضا أول طبيب يمارس مهنة الطب بشكل موثق فى التاريخ ، وله مؤلفات فى التشريح وقام بإختراع بعض العقاقير الطبية واضاف ... وأيضا هذا الرجل العبقري كان على دارية بعلم الفلك والنجوم ... وهو أول من انشأ مدرسة فى ممفيس لتعليم الطب فى العالم ، وهو ما أهله لاعتباره أحد الالهة المصرية القديمة وتم بناء معبداً له لتخليد ذكراه

وهكذا مضى المتحدث يستعرض تاريخ مصر الفرعونية ، حتى وصل إلى إحتلال الهكسوس أو الملوك الرعاة كما سماهم المصريين وقتها ... ثم توقف المتحدث وصدعت الموسيقى بشكل مفزع فى المكان فجأة ... لمدة دقيقة قبل ان يخفت صوتها ثم تتوقف تماماً ... وجاء صوت المتحدث فى نبرة قوية

وظهر لقب الفرعون ... وأطلق على هؤلاء الحكام المحتلين الذين تولى الحكم فى الإقليم الشمالى من الأسرة من الثالثة عشر وحتى السابعة عشر ، ثم عرض الفيلم الوثائقي المخترعات الحربية التى أعطته الهكسوس التفوق على المصريين فى ميادن القتال ، وعرض لكفاح أهل طيبة فى الإقليم الجنوبي لهؤلاء الغزاة بقيادة كامس فى نهاية الأسرة السابعة عشر ومن بعده أخوه أحمس والذى طبق إستراتيجية الحصار والإنهاك على الهكسوس ، والقضاء على البؤر الصغيرة ، واستخدم نهر النيل لذلك ، فحاصر المدن الكبرى وقطع عنها الإمدادات

ثم صاح المتحدث .. كم انت عبقري يا أحمس ... ثم وجه كلامه للحضور قائلاً .. هل تعرفون ان أحمس قاد الجيوش المصرية فى تلك المواجهات وعمره 19 عاماً فقط ، ونجح في هزيمة الهكسوس فى عاصمتهم أواريس فى صان الحجر وطردهم من مصر ولاحقهم إلى أرض كنعان وحاصر حصنهم شاروهين ... وانتهت على يد أحمس سلسلة الهكسوس وللأبد 

وفى نبرة تنم عن الإعجاب بإنجازات هذا الشاب المحارب .. قال المتحدث .. وبهزيمة الهكسوس وزوال التهديد بدأ احمس يعيد النظام للدولة ويعيد فتح الممرات المائية والطرق التجارية وأخذ يصلح النظم المالية واهتم بنظم الري وأسس الأسرة الثامنة عشر والتى سيجوب ملوكها الشرق والغرب ... وكان المعبود الرئيسي في ذلك الوقت هو الأله ... آمون

بعد ذلك عرض المتحدث لإنشاء الجيش المصرى الذي بدأ يضم البلدان المحيطة فى عصر الدولة الحديثة والإنتصارات الرائعة على يد تحتمس الأول والثالث وبناء الإمبراطورية المصرية .. صاحب ذلك عرض خريطة العالم القديم والتى توضح كيف كانت الإمبراطورية المصرية تمتد من الفرات إلى منتصف الصحراء الليبية ومن حدود سوريا الشمالية إلى الشلال الرابع فى جنوب بلاد النوبة جنوباً

بعد حوالى نصف الساعة وفجأة ... إسودت شاشة العرض ، واظلمت القاعة تماماً ثم عزفت موسيقى فيردى ولكن هذه المرة فى الخلفية وبصوت منخفض ، ثم بدأ عرض صوراً لألواح مصنوعة من الطين عليها نقش بلغة قديمة على شاشة العرض 

وجاء صوت المتحدث صائحاً ليرفع حرارة العرض ... مخطوطات أخيت اتون ... تل العمارنة

------------------------------------------------


المصـــــــــــــــــــــــــــري
الفصــل الثاني
2/4

وجاء صوت المتحدث صائحاً ليرفع حرارة العرض ... مخطوطات أخيت اتون ... تل العمارنة

توقف نور بعد هذه الجملة لدقيقة ليستريح قليلاً ويرتشف بعضاً من كوب الشاي بالنعناع الأخضر الموضوع أمامه على تلك الطاولة النحاسية والذي اعتاد تناوله يومياً فى ذات المقهى منذ عشر سنوات ، فيما كان جميع رواد المقهى صامتين وكأن على رؤوسهم الطير ، لدرجة أن عم أمين صاحب المقهى والذي لم يعتد هذا المشهد منذ افتتح هذا المقهى - بعد ان استأجر المكان من عائلة بحيرى منذ اكثر من عشرين سنة - سوى فى وقت تصويب ركلات الجزاء فى مباريات كرة القدم بين المنتخب المصري فى كأس أفريقيا ، اخذ عم أمين يجيل نظره بين جميع الحضور ، وحين هم بأن ينطق لم تطاوعه نفسه على الكلام ووجد نفسه مضطراً للسكوت فى إنتظار أن يكمل نور وصفه لهذا المؤتمر الذي حضره ابن شارعهم الجدع على حد وصفهم فى باريس ، وها هو يعود لينقل لهم وصف عالم لم يحظ أي منهم بفرصة لأن يشاهده لا أن يعيش بين جنباته ... وهكذا توقف قلب الشارع النابض فى تلك القرية لمدة دقيقتين وهو الذي لم يعتد التوقف منذ ظهرت تلك القرية للوجود 

وعلى غير العادة لم يتململ عم حسين ذلك الرجل الطاعن فى السن ، ولكنه حلق بعينيه فى اتجاه السقف وهو ينظر إلى الفراغ وعلى وجهه إبتسامة لم تتح له الدنيا خلال أعوامه السبعين التى عاشها على الأرض فرصة لأن يبتسمها يوما ما ، بعد أن اعتاده مشوار الشقاء اليومي ، كانت هذه ابتسامة رجل متصالح مع الدنيا برغم كل ما مر به خلالها ، كان ينظر إلى الفراغ وهو يتذكر شبابه فى المنزلة ومغامراته التى كان يقص بعضاً منها على مسامع رواد القهوة يومياً ، ولكن كان دائما يحتفظ لنفسه ببعض منها مما تجاوزت بعض الخطوط الحمراء ولم تكن له خطوطاً حمراء فى ذلك الوقت حيث الشباب والقوة والفتوة تخترق كل المناطق المحرمة ، ولكن ما إن فترت فورة الشباب حتى أصبح وكأنه تحول لرجل شديد العزم يقف بجوار كل أهل القررية ، ويقضى الأيام والشهور فى رحلات الصيد ، وكان كثيراً ما يحكى لرواد المقهى عن قصة اختطاف مركب الصيد عن طريق القراصنة أمام سواحل الصومال ، وكيف حررها بمساعدة الريس فرج بعد أن عقدا اتفاقاً مع القراصنة بدفع فريضة عن كل حصيلة الصيد ولمدة سنة كاملة وهو ما حدث بالفعل ... مرت ذكرى تلك الحادثة بمخيلته وهو ينتظر نور ليكمل وصفه

أكمل نور قائلاً ... عندما عرض فابيان مدير المعمل فى اللوفر مخطوطات تل العمارنة ، وانتهى منها ، عرض صوراً للفائف التى وجدتها ، وقال عنها انها ستكمل مخطوطات تل العمارنة ، لأن كاتبها عاش فى نفس المدينة ، وبالرغم ان اللفائف وجدت فى مكان بعيد جداً عن أخيتاتون (تل العمارنة) إلى أن كاتبها فضل إخفاءها بعيداً حيث عايش تدمير المدينة ونهب قصورها ، وبذلك نجت تلك اللفائف من مصير المدينة ، ليس فقط ذلك بل إن صاحبها كان حريصاً على تدوين احداث الفترة التى سبقت حكم أخناتون واحداث العنف التى انطلقت بعد فرض آتون كإله مند دون باقى الالهة ووصف فيها طبيعة المواجهات الدامية التى نشبت مع كهنة الإله آمون ، لذلك تعتبر هذه الوثائق ثروة لا تقدر بثمن

ثم طلب فابيان منى ان اتقدم للمسرح بعد أن أضيئت أنواره قائلاً لنرحب بالسيد نور مكتشف تلك اللفائف وصاحب اكبر الفضل فى وصولها سالمة إلى علمائنا بالرغم من المشاكل التى تعرض لها بسبب ذلك ، وهذا عمل بطولى لم نعتده من مكتشفى الآثار فى الشرق الأوسط ، وقف جميع من فى القاعة وصفقوا لمدة تعدت الدقيقة ، ثم عُزف النشيد الوطنى المصري 

هنا تعالت صيحات الحضور الله عليك يا نور الله يانور ... شرفتنا ورفعت رأسنا ورأس مصر ، كان جميع من بالمقهى يعيشون حالة من الفخر الذي قليلاً مااستشعرها شباب الرواد وإن كان يعرفها عم حسين حق المعرفة وكان قد استوحش هذه المشاعر لزمن وها هو يلتقيها فى نشوة بالغة

اكمل نور قائلاً وطلب منى فابيان أن اشرح قصة هذا الكشف من بدايته للحضور ، فتقدمت الى مكان المتحدث على المسرح وفضلت التحدث باللغة العربية على ان يقوم مترجم من المتحف بترجمة ما اقوله لهم بالفرنسية وتظهر على شاشة العرض التى كنت أقف على يمينها الترجمة بالإنجليزية ، فى حين تظهر بعض اللقطات للأماكن التى يتم تناولها على شاشة العرض وبجوارها خريطة مصر فى عصر الأسرة الثامنة عشر
--------------------------------------------
خريطة مصر التى استخدمها فابيان والتى توضح مدينة أخيتاتون والتى كانت العاصمة فى عهد أخناتون 



أحد مخطوطات تل العمارنة التى عرضها فابيان خلال المؤتمر




-------------------------------------------

المصـــــــــــــــــــــــــــري
الفصــل الثاني
2/5

إسمي نور .. هكذا بدأ نور يقص كيف بدأ كلمته خلال المؤتمر على مسامع رواد المقهى وما حدث خلال فاعليات المؤتمر العلمي الذي عقد لإعلان النتائج النهائية لترجمة النصوص التى احتوتها اللفائف والذي نظمه متحف اللوفر فى باريس كما تقدم ... يقول نور سكنت القاعة تماماً كأنه العدم .. وبدأت اتحدث قائلاً

أدعى نور ، مصري ، أحمل شهادة جامعية فى الآداب ، عمرى ثلاثون عاماً ، وأعمل كصياد لأعيل أسرتى المكونة من أمى وثلاث أشقاء فتاة جامعية مخطوبة وطفلين فى المرحلة الإبتدائية ، من هنا تبدأ بداية إكتشاف تلك اللفائف .. هذا الكنز الذي لا يقدر بثمن 

كانت تلك البداية والتى بدأ بها نور حديثه كفيلة بأن ترفع سقف الفضول فى القاعة إلى أعلى مستوياته ، فأنى لصياد مثله بالوصول لمثل تلك الإكتشافات الأثرية ، بل أنى له أن يعرف قيمتها التاريخية والعلمية للبشرية ، وكيف خاطر بحياته لإيصالها وما العائد عليه من وراء ذلك ، كانت هذه بعض من الأسئلة التى دارت فى خلد الحضور والذين لم يعد يُسمع صوت أنفاسهم من فرط الإثارة التى لف بها نور كلمته

أكمل نور قائلاً ربما تجدون بداية كلمتى غامضة بعض الشء ولكنى أراها البداية الحقيقية لما نحن بصددة وبعد قليل سيتأكد لكم ذلك ، نشأت فى قرية الشبول فى محافظة الدقهلية حيث فرص العمل شبه منعدمة تماماً ، استطعت إكمال دراستى الجامعية ، ولعدم وجود فرص للعمل ، بدأت عملى كصياد فى بحيرة المنزلة ، ولكنى لا أملك مركباً للصيد ، بل كنت امارس الصيد عن طريق الغطس فى البحيرة فى الأماكن القريبة من النباتات بإستخدام سلاسل حديدة ثقيلة أستطيع معها أن اقبض بيدى على الأسماك الصغيرة بضربة مفاجأة ، ولعلكم تتعجبون من طريقة الصيد البدائية هذه ، ولكنى أخبركم ان طريقة الصيد اليدوية هذه هى ما تكفل الحياة للعديد من الأسر التى تسكن حول بحيرة المنزلة حتى اليوم ، ومنهم أسرتي

قضيت سنوات اقوم بنفس العمل ، ارتدي ثياب الغوص والتحف بالسلاسل واضع غطاء ًعلى رأسى لتقليل الأثر المضر للشمس على وجهى ، واتجول فى مياه البحيرة وكلما رأيت سمكة قمت بالإنقضاض عليها بيدي هاتين .. وفى حركة مسرحة مد يديه أمامه فيما الحضور قد سقطوا فى بئر من الصمت الرهيب

يقول نور ، ولكن جاء يوم أستولى فيه بعض رجال المصالح واصحاب النفوذ والسطوة على المسطح المائي للبحيرة وسوروها ووضعوا فيها أقفاص بشباك معدنية وحولوها إلى مزارع سمكية ، ولما اعترضنا لأننا سنفقد مورد رزقنا أطلقوا علينا المرتزقة والبلطجية فأخذوا يعتدون على الصيادين الفقراء والضعفاء ، وخطف زميلي أنور البوري وقتل آخر يدعى محمد علوبه ، واضطر الصيادون الضعفاء لعدم مواجهة هؤلاء القتلة وعدم الصيد فى البحيرة

كان يجب على إيجاد عمل لإعيل أسرتي فقررت أنا ومجموعة من الزملاء السفر لمدينة السويس للعمل كصيادين على إحدى الفلوكات التى تصطاد فى خليج السويس ، وبالفعل حططنا رحالنا فى ميناء الأتكة بالسويس وكان لنا بعض الجيران الذين يعملون هناك رحبوا بنا واستقبلونا وبدأنا نعمل معهم فى صيد الأسماك من خليج السويس على مركب صغيرة - فلوكة - باستخدام شباك الكركبة الضعيفة ، وأذكر أن من بين ما صدنا كان سمكة قرش من نوع الزيفا أو ما يطلق عليها سمكة النمر وكان طولها حوالى سبعة أمتار ، وكافحنا طوال اليوم لسحبها إلى حوض إصلاح وصيانة السفن فى الميناء ، لم يصدق أحداً يومها أن من الممكن اصياد مثل تلك السمكة العملاقة بهذا القارب البدائي


وقضينا اكثر من عام ونحن نصطاد أسماك البورى والشعور والمكرونه والدنيس والسردين ، ولكن ذات يوم ونحن نصطاد ليلاً إصطدم القارب الذي نستخدمه قرب منطقة رأس شقير بمنصة بترولية مظلمة ، وغرق القارب وقفز جميع من فيه فى مياه خليج السويس وصارعنا الموت لفترة قبل ان يتم انقاذنا عن طريق مروحية شركة البترول مالكة المنصة وأحدى المراكب المارة ، ولكن فقد فى هذا الحادث أحد زملائنا وأسمه بيومي ، ومنذ ذلك اليوم تفرق الجميع للبحث عن مركب آخر للعمل عليه وترك بعضنا العمل إلى بلده ، يقول نور لم يكن لى خيار غير البحث عن صاحب مركب آخر يمكن أن يقبلنى على مركبه
--------------------------------

المصـــــــــــــــــــــــــــري
الفصــل الثاني
2/6

يكمل نور قائلاً ... وهكذا ذات مساء ... أصبحت بلا عمل وبلا مورد رزق يعيل أسرتي ، وأنا غريب فى تلك البلدة ، حاول الأصدقاء والجيران من بلدتى مساعدتى بالعمل معهم على المراكب التى يعملون عليها ، ولكن حادث اصطدام وغرق المركب السابق جعل كل أصحاب المراكب يرفضون منحى فرصة أخرى للعمل على مراكبهم ، ولم يكن ذلك بالأمر الجيد

قضيت فترة طويلة بلا عمل ، انتظر على مقهى الصيادين طوال النهار واحاول الترزق عن طريق الصيد بغابة ذات ماكينة يدوية كنت قد أستعرتها من احد أصحابي ، وبأي حال لم تكن تلك طريقة ناجحة لتأمين دخل يعيل أسرتي ، وهكذا مرت الأيام بطيئة وثقيلة بلا أمل ، كل يوم أتوجه للبحر بعد الفجر وأبدأ فى الصيد حتى الظهر فأجمع أغراضي وأتوجه إلى سوق الأنصاري لبيع حصيلتي من الصيد .. والتى لم تكن كثيرة 

إلى أن جاء يوم وقابلت أحد الجيران من القرية على المقهى بعد صلاة العشاء ويدعى صابر عباس ، وحقاً لم أكن لأتعرف عليه فقد كانت ملابسة كلها غبار وكأنه خرج لتوه من مخبز أو مطحن ، لكنه هو من قابلنى بالترحاب قائلاً نور إبن الحاج سند ، نورت السويس يا ابن الشبول ، وعرفته عندما ذكرنى بنفسه وبيته الكائن على بعد ثلاثة بيوت من دارنا .. يا الله إنه صابر بن عم عباس جارنا ، ولكن ما هذه الحال التى هو عليها .. يقول نور لم أسأله عن حاله لأنى لم أكن فى حال أفضل منه ، ولكنى بعد أن احتضنته سألته هل زار القرية مؤخراً ، فنفى ذلك وتطوع هو من تلقاء نفسه ليخبرنى أنه يعمل فى محجر دولميت فى جبل عتاقة ، قرب ميناء الأدبية ، ولما سألنى عن حالى أخبرته بأنى متعطل بسبب حادث غرق المركب ويرفض جميع أصحاب المراكب عملى لديهم

كان صابر كريماً فقال .. غداً تأتى معى للمحجر ، فهم هناك بحاجه لعمالة مؤقته باستمرار للعمل فى الجبل فى الكسارات ، وحذرنى بأن احترس اثناء العمل وخاصة وقت التفجير لكي لا أصاب بأذى ، وقال لى هذا عمل شاق يحتاج لرجال ، وانا اعرف انك رجل منذ أن كنا نصطاد معاً فى المنزلة طوال النهار ، وجدتنى أضحك من مرارة الأمر ، فكيف له وهو يرانى على هذه الحال ان يقع فى عقله أنى من الممكن أن أرفض العمل فى المحاجر 

فى فجر اليوم التالي ذهبت معه فى سيارة نقل العمال المكشوفة لمنطقة المحاجر ووصلنا هناك بعد الشروق ، كان موقع المحجر يطل على ميناء الأدبية ويواجه منطقة عيون موسى على الجهة الأخرى من الخليج ، عرفنى صابر بالريس كمال ريس العمال وشرح له حالى ، وكان الريس كمال صعيدى من عزبة حماد مركز أبنوب فى أسيوط ، وحضر للسويس منذ اكثر من عشرين سنة ومن ذلك اليوم وهو لم يترك المحجر ، بل لم يأخذ اجازة مرضية يوماً ، كان رجلاً طيباً بكل ما تعنيه كلمة طيب ، يحمل دوماً أخلاق ذلك الرجل الصعيدى الشهم معه أينما ذهب ، لا يتوانى عن الوقوف بجانب أي محتاج ، وكثيراً ما كان يحكي لنا عن بلده ومزارع القصب فى قريته وقت الراحة ، ولم يتأخر الريس كمال عن قبول طلب صابر للعمل معهم وأخبرنى أن اليومية 50 جنيه والشركة سوف تؤمن الغذاء والنقل والملابس ، وقبلت ذلك وأنا جد سعيد 

هكذا بدأت العمل فى المحاجر فى جبل عتاقة ... توقف نور ليرتشف رشفة من كوب الشاي المضوع على الطاولة النحاسية فى المقهى والذي كان قد برد بسبب إنهماك نور فى الشرح ، ولكن على خميس العامل فى المقهى ، أسرع خلف الناصبة واحضر غيره صائحاً ... شاى زى الفل لنور سيد الكل

كانت هذه الصيحة تمثل عودة الروح لكل رواد المقهى الذين على ما يبدو أنهم كانوا يعيشون بكل خلجاتهم تفاصيل حكاية نور ، فما أن انتبهوا حتى تكلم عم حسين الذي ظل صامتاً طوال اليوم فوجه كلامه لنور قائلاً

اشتغلت فى جبل عتاقة يا نور الله الله ... عارف جبل عتاقة ده يا نرو ليه حكاية مع كل السوايسة وكل الذين عاصروا الحرب هناك ، هنا انتقل انتباه رواد المقهى وانتبهوا بكل حواسهم لعم حسين لأنهم ادركوا أنه على وشك أن يقص عليهم حكاية من حكايته التى كانت لا تنقطع ألا فى هذا اليوم

يقول عم حسين ، كنت فى السويس قبل حرب أكتوبر ولم اتركها ولما قامت الحرب وعبرنا الجهة الأخرى للقناة ، كان هناك بعض الجنود الذين يقومون بإخلاء الأسلحة والذخائر التى يستولى عليها قواتنا من الصهاينة على الجهة الشرقية ، وكانوا يحملونها فى عربة نقل اسمها الزل لعسكرات الجيش الثالث ، ولما حدثت الثغرة فى يوم 14 أكتوبر وبدات قوات العدو تحاصر الجيش الثالث وحاصرت كل مدينة السويس حتى وصلت إلى فايد ، كنا نخبئ سيارات الجيش بكل ما تحمله من قنابل تحت منازلنا فى المساكن ونضع فوقها الملايات والأغطية وندعو الله كل يوم ألا تنفجر فتدمر كل الحي او تسقط عليها قنبلة من طائرة العدو ، وكان الحصار على المدينة شديد لدرجة أن الطائرات المصرية كانت تحضر لنا الطعام والدواء ولا تستطيع انزاله فكانت ترمى بالغذاء والدواء فى البحر وكنا نسبح لجمعه

حتى جاء يوم 24 أكتوبر وحدث ما لا أنساه أبداً فى جبل عتاقة .. كان الحضور قد التهمهم الفضول لمعرفة ما حدث وأخذتهم الحماسة من حديث عم حسين عن الحرب ولم يكن معظمهم قد عايشها أو شارك فيها ... وارتفعت صوتهم ربنا يخليك يا عم حسين إيه اللى حصل فى جبل عتاقة

وبدأ عم حسين يروى وقد عادت له روح الشباب وذكريات الفخر والعزة ، بدأ يحكى قصة الجيزي


--------------------------------

المصـــــــــــــــــــــــــــري
الفصــل الثاني
2/7



وبدأ عم حسين يروى وقد عادت له روح الشباب وذكريات الفخر والعزة ، بدأ يحكى قصة الجيزي

شرد عم حسين بنظره في السقف وتعلقت عيناه على المصباح الأبيض الأنبوبي ، وعلى وجهه ارتسمت علامات الفخار وابتسامة كانت قد فرت من ذاكرته السحيقة لتستمتع بشمس النهار فوق وجهه قبل ان تعود لمخبأها مرة اخرى .. وكأنه استحضر روح الماضى البعيد وأحاسيساً غادرته ولم تعد متاحاة منذ زمن ، وراح يحكي قصة الضابط محمود الجيزي بصوت عميق قد ترك الزمن عليه آثاره ، قائلاً .. محمود ده بطل من أبطال ثغرة الديفرسوار أثناء الحرب

ثم جال بنظره بين الحضور قائلاً .. الحرب يا أولادي مثل النار تظهر معادن الرجال ، وفى كفاح أهل السويس ومدن القناة كلها الكثير من حكايات العزة والفخر التى لم تدرس لكم فى المدرسة ، ومات من عايشوها فماتت معهم ... ودمعت عيناه

ثم أردف .. كان فيه مجموعة صاعقة رقمها 39 من ضمنهم صف ضابط إسمه محمود الجيزي مصريين بجد شربوا من النيل قبل ما يلوث ، وأهاليهم دعوا لهم فى الفجر قبل ما السهر للصبح يشغل الناس عن الصلاة ، محمود والرجاله زملائه شاركوا فى حرب الإستنزاف بفدائية ، وكان محمود عظيماً لدرجة انه حصل على ترقيتين استثنائيتين وأصبح ضابطاً فقط بجهوده وتضحياته وبمساعدة زملاءه

محمود كان ضابط بالصاعقه المصريه بالمجموعة 39 قتال بقيادة الشهيد إبراهيم الرفاعي القائد الشجاع والراجل العظيم وللأسف أنتم لا تعلمون عنه شيئاً ولا بطولاته أثناء حرب الإستنزاف ، محمود شارك فى معظم الكمائن وعمليات التلغيم التى ارهقت العدو وحققت خسائر كبيره له فى الأرواح والمعدات أثناء حرب الإستنزاف ، وحصل محمود على نوط الجمهوريه ونوط الشجاعه نتيجة لما شراك به معهم

ومصر أولادها وقت المحن أبطال .. رجاله .. والجيزي كان بطوله لحاله ، فى حرب أكتوبر 1973 |، يوم الرابع والعشرين من أكتوبر وأثناء الثغرة البحرية الاسرائيلية عملت إنزال قوات فى منطقة ميناء الأدبية فى السويس ، ونظر عم حسين ناحية نور قائلاً عند جبل عتاقة يا نور .. عملوا إنزال بالسويس لمحاصرة السويس بالكامل عن طريق الخليج ومحاصرة الجيش الثالث وبغرض قطع طريق الإسماعيلية لعدم وصول مساعدات للسويس ، لكن 4 أفراد من المجموعة 39 تصدت لهم وقامت المجموعة بالمقاومة من إستراحة قرب مصنع السماد

وفشل إقتحام الإستراحة لكن الجيش الإسرائيلي دمر الإستراحة بالدبابات وقتل المجموعة داخلها ، لكن الجيزي نجا وقام بالإنسحاب من مصنع السماد إلى المحاجر فى جبل عتاقة ، وتحصن هناك واختبأ بأحد المحاجر بالجبل وواجه القوات الإسرائيلية التى كانت ترسل للمحاجر وحده لمدة 9 أيام باستخدام خنجره ، وكان الإسرائليون يعتقدون بوجود عدد كبير من المقاتلين متحصنين داخل المحجر ، وقبضوا على غفير المحجر وعذبوه حتى أخبرهم بوجود فرد صاعقة واحد متحصن بالمحاجر ، فقاموا بالهجوم على المحجر بقوات كبيرة وواجههم الجيزي ببسالة حتى نفذت ذخيرته فقتلوه وتم دفنهفى مكان سري ، وللأسف لم نعرف مكان جثته حتى الآن وبعد الحرب أعتبر من المفقودين وبعد اربع سنوات من الحرب حصلت زوجته على شهادة من الجيش بإستشهاده ... رحمة الله عليه كان راجل دفع حياته فداء لرض مصر ... ومات راجل ولم يستسلم 

ونظر إلى نور فى حب وفخر قائلاً ... هذا الشبل من ذاك الأسد ، وجبل عتاقة به مجرمون مختبئون فى المغارات هناك ، ولكن أيضا به تاريخ لبطولات وآثار لرجال سطروا التاريخ وحفظوا الرض والعرض ، واليوم نور هو أحد هؤلاء الرجال الأبطال

راجل يا نور


--------------------------------


المصـــــــــــــــــــــــــــري
الفصــل الثاني
2/8


هكذا بدأت العمل فى المحاجر فى جبل عتاقة

كانت هذه هى العبارة التى توقف عندها نور ، عندما اضائت الشاشة التى يقف على يمينها بخريطة كبيرة لمصر الحديثة تجاورها خريطة لمصر الفرعونية فى حقبة ما يطلق عليه الدولة الفرعونية الحديثة ، عندها كانت أوجيني قد وصلت إلى قاعة المؤتمر

كانت أوجيني قد تأخر وصولها للمؤتمر بسبب ذهابها في زيارة طارئة لأمها فى دار المسنين ، حيث أصيبت أمها فى صباح ذلك اليوم بأزمة ربو حادة ، وكان يتوجب عليها البقاء بجورها حتى تخف آثار النوبة المرضية ، كان منزل رعاية المسنين والتي تقيم فيه أمها يدعى جي دي بي فيندوم بالقرب من الأوبرا وبالقرب من متحف اللوفر حيث تعمل أوجيني ، لكن كان عليها الذهاب إلى المؤتمر فى فندق الفور سيزونز والواقع في شارع جورج الخامس على بعد خطوات من الشانزليزيه وهى المسافة التى لا تتعدى الثلاث كيلو مترات إلا أن فابيان مدير المعمل ورئيس الفريق كان قد أصر على أن يصحبها روجيه للتأكد من سلامتها ، ولتأمين وصولها المؤتمر قبل موعد بدء كلمتها

لم يثر غيابها أى من الحضور حيث كان العاملون على تنظيم فاعليات المؤتمر قد أخفوا أسماء المتحدثين فى المؤتمر حفاظاً على سرية النتائج وزيادة فى تأمين فريق العمل ، لما وصلت أوجيني وكان نور قد إنتهى من جملته السابقة للتو ، أشار فابيان لأوجيني أن تصعد إلى جوار نور لتقوم بالشرح على الخرائط لتوضيح موقع الأماكن التى يتحدث عنها نور وجغرافيتها خلال الفترتين الزمنيتين والتى تعكسها الخرائط المعروضة

توقف نور قليلاً .. فى حين بدأت أوجيني الحديث قائلةً

أهلا بكم إمسى أوجيني بلتسور ، أعمل عالمة آثار ومترجمة لغات قديمة بمتحف اللوفر ، شرفت بالعمل مع مستر فابيان وباقى فريق العمل على ترجمة هذه اللفائف التى وجدها نور وقام بإيصالها للمتحف ، حيث ستمثل جزءاً مهما لتجميع الصورة لتلك الحقبة الزمنية ،وخاصة أنها وجدت سليمة تماماً ، ووثق كاتبها لفترة ما قبل الثورة الدينية لإخناتون فرعون الدولة الحديثة وقام بتوثيق فترة هامة فى تاريخ البشرية سبقت ظهور إخناتون ، وهذا الي نحن بصدده اليوم ، حيث يكشف لأول مرة عن وثائق ستجعل الكثير من الحقائق التاريخية مجرد خيال وأحكيات تقص على مسامع الأطفال قبل النوم

التفتت أوجينى للخرائط قائلة ، هنا على مدخل البحر الأحمر الشمالي تقع مدينة السويس ، وهذا يسمى خليج السويس وهو بوابة البحر الأحمر الشمالية ، وهنا على بعد عدة كيلومترات ميناء الأدبية التجاري فى مدينة السويس ويشرف عليه جبل عتاقة حيث تحدث نور عن عمله هناك باحد المحاجر ، ما لا تعرفونه انه فى المقابل له على الضفة الشرقية تماماً ... تقع عيون موسى وسنأتى على خبرها بعد قليل

أشارت أوجيني للخريطة القديمة وقالت ، لدينا أدلة تاريخية انه خلال فترة الدولة الفرعونية الحديثة كان خليج السويس يصل حتى بحيرة التمساح وان البحيرات المرة كانت جزءاً من خليج السويس فى تلك الحقبة ، مما يعنى ان موضع مدينة السويس لم يكن هو نهاية الخليج فى تلك الحقبة

ثم طلبت من نور أن يكمل حديثه

--------------------------------------------

المصـــــــــــــــــــــــــــري
الفصــل الثاني
2/9

كان الصمت يلف المكان فقد كان الجميع فى إنتظار حدث جلل على وشك أن يولد من رحم التاريخ السحيق على يد تلك العالمة أوجيني بعد أن منحها نور تلك الهبة العظيمة بإيصال اللفائف سليمة تماماً للمتحف ، والتى كانت تمثل بالنسبة للعالم بأكمله شمس تشرق من جديد على تاريخ سحيق للبشرية ، بقى كافة الحضور جامدون ، وطل الصمت على القاعة برأسه إلا من صوت مروحة جهاز العرض والتى كانت تصدر صوتاً خافتاً أرق السكون والجلال الذي لف القاعة فى تلك اللحظات


بدأ نور حديثه قائلاً  ..  ومرت الأيام رتيبة أثناء العمل فى كسارة المحجر ، وتولى صابر تعليمي كيف اقوم بتحميل الصخور من الكسارة فوق العربات اليديوية حتى يتم وضعها على السير المتحرك الكبير الذي يتولى نقلها إلى المصنع ، وكان الريس كمال دائماً ما يسألنى عما تعلمته يومياً ، ويثني على جديتى فى العمل وقدرتى على التحمل ، وكان دائماً ما يردد .. شباب بحري يا نور هؤلاء اصبحوا ضعافاً ، ونادراً ما يستمر أحدهم فى العمل بدون انقطاع بشكل متكرر حتى يأتى يوم ولا يظهر مرة أخرى ، على عكس شباب قبلى فهم لا يزالون أشداء لم تضعف الأيام عزمهم ولا صبرهم ولا قوتهم بسبب دور السنيما والمقاهي التى تعمل للصباح والشوارع التى لا تهدأ ... كان الريس كمال صعيدياً حتى النخاع وكان يفتخر بذلك دائما وكان الجميع يكن له كل الحب فهو لم يتخلى يوماً عن أي منهم

وظلت تلك هى الحال حتى جاء يوم لن ينساه العمال جميعاً فى المحجر ، فبعد بدء العمل بساعتين حدث قطع جزئي فى سير تحميل الصخور المرتفع والذي كان يمر من فوق طريق يعبره العمال والسيارات ، ويومها طلب الريس كمال من إدارة المحجر إيقاف العمل لتغيير السير ، ولكن إدارة المحجر رفضت بعد كشف أولى على طول القطع ، وأبلغ المهندس المسئول الريس كمال بمواصلة العمل على ان يتم تغيير السير خلال فترة الإستراحة بعد ساعتين حتى لا يؤدي ذلك لتوقف الإنتاج

يومها أطل هذا الصعيدى الذي يسكن جوانح الريس كمال بكل عنف عندما رفض ذلك لما فيه من مخاطر على العمال ، وتصاعد الخلاف مع المهندس المسئول وبدأ العمال ينحازون للريس كمال وبدأت تتعالى الأصوات بالإضراب عن العمل حتى تغيير السير ... لما وصل هذا الخبر للإدارة العليا تم استدعاء الريس كمال لمكتب الإدارة وتم توبيخه وطلبوا منه الإعتذار للمهندس المسئول وتنفيذ ما طلبه ، لم يكن الريس كمال ممن يستسلمون بسهولة ، فحاول كثيراً إقناع الإدارة بخطورة الموقف ، ولكن كل محاولاته باءت بالفشل وتم تهديده شخصيا بالفصل لو لم ينفذ ما طلب منه

خرج الريس كمال من مكتب المدير وعلى وجهه علامات الحزن لفشله فى درء مثل هذا الخطر الذي يتهدد العمال ... ما زلت اذكر قوله وأنا اراه خارجاً يضرب كفاً بكف وهو يقول ... عمال غلابة ومؤقتين وليس لهم تأمينات لو أحدهم مات ... ليس له ديه ، واهله سيشحذون ولن تنفعهم الإدارة بشئ ... لا حول ولا قوة إلا بالله

فى هذه اللحظة قرر الريس كمال تفريغ نفسه تماماً ووضع طاولة يجلس خلفها تماما عند منطقة عبور السير حتى يتسنى له مراقبة طول القطع باستمرار ومن ثم تحذير العمال فى حالة وجود أي خطر ، ولم يمض اكثر من ساعة وهو على هذا الحال .. حتى حدث ما كان ذلك الرجل الشهم يتوقعه وكأنه قد قرأ الغيب فى ذلك اليوم وعرف طالعه ... فقط حدث قطع كامل للسير بشكل مفاجئ تحت حمل الأطنان من الصخور الموضوعة عليه وسقطت على المنطقة التى كان يجلس بها كي يحذر العمال ، وسقطت الصخور عليه فشمهت رأسه ,اردته قتيلاً على الفور .. ومات هذا الرجل الذي جاد بروحه حتى لا يفقد عامل فقير روحه وبكاه الجميع طويلاً

عندما أنهى نور كلمته تأثر ودمعت عيناه وهو يستحضر مصرع ذلك الرجل الشهم، وبات الكلام يخرج منه بصعوبة مما حدى بأوجين ي على تركه يستريح قليلاً وتولت هي الحديث 


-------------------------------------------------------
المصـــــــــــــــــــــــــــري
الفصــل الثاني
2/10


لما هوى نور إلى مقعده متأثراً بذكر مصرع الريس كمال مستحضراً روح التضحية والإيثار التى كان يحملها هذا الصعيدي بين جنبيه كمثل الأنبياء .. ذلك الرجل الطيب والذي لم تلوثه حياة الحضر بعد ، بالرغم من مكوثة لأكثر من عشرين عاماً بالمحجر ، ولكنه كان خلالها مثلاً حيا لما يمكن أن يكون عليه الإنسان عندما يترقى لمرتبة بين الملائكة والبشر ... عندما حقاً تمتع بروح إنسان ملائكي


لما جلس بدأت أوجينى الكلام قائلة حتى يستريح نور قليلاً ، سأقص عليكم بعضاً من ما ورد  باللفائف ذلك بعد ان قمنا بترجمتها ومراجعتها بطريقة علمية ومنهجية ، أخرجت أوجينى بعض الوريقات من الحافظة الجلدية ذات اللون البنى والتى تحمل علامة متحف اللوفر عليها والتى كانت أوجينى تحملها عندما وصلت للقاعة ، وبدأت القراءة من تلك الأوراق قائلة:

هذه اللفائف دفنها مصرى أسمه ماني عاش فى عصر الدولة الفرعونية الحديثة ، وهى كما تعلمون فترة الإمبراوطورية المصرية العظيمة ، وتعود ملكية اللفائف لأبيه محب ، إلا أن مانى كان حريصا على توثيق ما حدث له أيضا وإرفاقه بها ووثق ما حدث له حتى استطاع إخفاء مثل تلك الوثائق

كان مانى جندياً فى جيش مصر فى الحقبة التى تلت الفرعون الشاب توت عنخ آمون ، وحارب القبائل الليبية وشارك فى حرب الحيثيين فى بلاد كنعان ، وأصيب أثناء وجوده ضمن افراد الحامية فى قادش ، وبدأت أوجينى تحكي ما ورد بالترجمة والذي دونه مانى ليوثق ما مر به هو وزوجته يانيس حتى قالت :

هكذا بدا مانى ويانيس الصلوات للإله آتون حتى يساعدهما على انفاذ وصية محب والد ماني والتى كانت تنصب على إخفاء اللفائف التى توثق عصر ما قبل اخناتون وفترة  اخناتون ودور محب والد مانى فى فيها وتحكى قصة الصراع بين أتباع الإله آمون القديم والضارب فى تاريخ الدولة المصرية الفرعونية منذ نشأتها وبين وأتباع الإله آتون إله الشمس الذي فرضه إخناتون على الشعب ... تنهدت أوجيني فى حسرة وهى تقول:

وأيضا تشمل اللفائف توثيقاً لتدمير مدينة أخيتاتون الجديدة وسرقة ونهب قصورها وتدمير روح الفنان المصري الجديد والذي بدأت تخرج للعالم أنواعاً جديده من الفنون الإنسانية ، فلأول مرة تصف فنون تلك المرحلة الحركة والمشاعر بالصور والجداريات ، فتمثل الإله آتون ذو ايد حانية تخرج من الشمس لتربت على البشر على الأرض ، ويمثل لنا فن تل العمارنة فناً جديداً على البشرية  ... كانت البشرية وقتها فىأمس الحاجة له

اكملت أوجينى ما تقرأه وقصت حكاية إصابة مانى بالكامل ومراودة كاهن آمون ليانيس ووصفت حب يانيس لزوجها ومساعدتها له وتلك الصلاة التى بدءا بها إنفاذاً لوصية محب ثم قالت ... هكذا انتهت الصلاة الأولى وبدأت الصلاة الثانية وهى تسبيحة الليل وقرأت أوجيني:

"إذا غاب نورك وذهب سناك أضحى العالم فى ظلمات كظلمات القبور لقيام الناس بالحجرات والخدور يلفون رؤسهم ويكممون أفواههم ويخفتون أصواتهم وتغشى عيونهم فلا يبصرون ولا يشعرون سبحانك أنت الذي حفظتهم مما حولهم وما بين أيديهم فى دياجير الظلمات وغسق الليل حينما تخرج الأسود من عرائنها وتنساب الأفاعي من أجحارها ويسدل الظلام سدوله ويسكن العالم لأن مبدعه قد أفل راجعاً ليستريح فى ملكوته"

ثم توقفت لترتشف بعضاً من الماء من الكأس الزجاجي التى أمامها وقد بدا عليها التأثر وهي تقول ... أليس هذا الإله آتون رائعاً ، أليس رائعاً أن يصف البعض إله بهذا الجمال ، ثم اردفت يبدو أنى سأقع فى غرام آتون ... ثم قالت فلنقرأ معاً الصلاة الثالثة 

"ما اجمل العالم حينما تشرق على الأفق فتضئ بطلعتك النهار أيها الملك القدوس آتون فتذهب وحشة الليل وتبدد ظلمة الغسق وترسل أشعتك على البلدين فتضحي فى عيد سعيد ثم يستيقظ الناس من سباتهم ويفيقون من غفلاتهم وينتصبون قائمين لإداء أشغالهم فسبحانك أنت الذي أيقظتهم وأنهضتهم ثم يتوضئون ويرتدون ثيابهم ويرفعون اكفهم إلى السماء مصلين لك ومسبحين بحمدك بالسخر والفجر ثم يهرعون إلى أعمالهم"

كان نور قد استعاد بعض من هدوءه فطلبت منه أوجينى أن يكمل 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق