أوراقي المبعثرة


أوراقي

أيها العابر من هنا ... هلا أخبرتنى فيم الوقوف ... هل اردت هتك ستر أوراقي ، أم تراك شغفت لمطالعة تلك الأوراق التي أحملها !!  لن أطيل عليك فأوراقي هي حبات العقد الذي تنظمه أيامي وتنمقه وقفاتي وتصقله كلماتي ، حبات العقد الذي أصفه منذ جيء بي إلى تلك البقعه من الكون اللامترامي إلى هذا الكوكب الراقص حول ذاته بميل ودلال ، ولأكون اكثر دقة ، الى ذلك الشارع القابع فيه منزلنا حيث تركتني الأيام رضيعا وارتحلت تبحث لها عن ضحايا جدد.


معذرة فأوراقى ليست مرتبة ، فقد اعتدت على ترك اوراقي حولى مبعثرة وبشكل قد يبدو فوضويا ولكنه لذاتي هو نفس الحياه وروحها اللعوب التى تتلاعب بالأوراق في براءة طفلة وشقاوة هرة وتترك آثارها خلفها مُعلِمة الحياة انه مازال بها بقية من روح.


التقط اقرب أوراقي إلى روحي الملقاة على سرير الوهن ، الوهن الي نسجته الأيام بخيوط الألم وغسلته بدموع الحسرة وصبغته بدمي حتى صار رداء العذاب اليومي لتلك الروح المحتبسه هنا في تلك البقعة على جسد تلك الراقصة اللعوب ، وأقرأ ما كتب عليها ، يالله انها ورقة الترحال.


قد تبدو الورقة مهترأة وممزقة الأطراف ، لكن هذا أثر الترحال ولهذا مروية ، فنفسي اعتادت من قدم ، مذ ان وعت الأمر على السكون والدعة داخل قيدها ، وأذكر ان نفسي كانت ترجع من مشوار شقاءها اليومي إلى محبسها ، تدخل في القيد دون طلب أو امر ، ومضي ما مضي على ذلك حتى اعتادته النفس وأصبح محبسها هو مهربها وملاذها ، فما إن دارت الراقصة جتى أدارت معها نفسي وقذفت بها الى شواطئ عديدة ، وأذكر ان أول رحلة في فضاء ذلك الكون وخارج ذاك المحبس كانت بصحبة شيطان مغامر الف الترحال ومازال يوسوس لى ويمنيني ويرغبنى ويدغد أطراف النفس بحلو الوصف عن المتعة واللذة في الترحال ... غريب .. هو ذاك الشيطان الذي لا يمل عن غواية إنسان إعتاده محبسه، ولكن الأغرب أن الإنسان ما كان ليخرج من محبسه وجنته لو لم يغوه هذا الشيطان ليستكشف آفاقاً رحبه ، ولعل آدم لم يندم على الغواية وإنما ندم على المعصية ، لا أعرف سوى أني لم أفارق شيطاني لسنين طويله ، ارتحلت فيهم نفسي بعيداً وقريباً وأذكر انى تركت آثاري في أماكن لم يطأها أحد من قبل أو لا اقدر ان أصل إليها الآن.


الآن اعود من حيث بدأت فأريح النفس قليلا قبل ان اخبركم عن سر الغواية الأولى فالأمر عجيب ما إن تتذوقه حتى تدور رأسك وتلمع تلك النظرة الساحرة في عينيك وتسقط ... في بحر مترام لا تخرج منه حتى تهدأ نفسك بسقوطك من فوق ذاك الجسد العاري الراقص ... وللأبد.



ورقة .. الترحال ... الغواية الأولى



صحراء ... وفقط صحراء هكذا كنا وذاك كان موضعنا ، هناك تركنا أثرنا ، ثلاث شباب وثلاث دراجات ورابع تائه في الصحراء ، ولا شئ وظلام يكاد يحل ، وحادث وعمليات إنقاذ ، ومغامرون فوق ناقلة وقود تعبر الصحراء تعلقت حولها الدراجات ... ولكن كيف وصلنا لهناك وكيف انتهينا الأمر غريب.


اعود من حيث بدأت ، لذلك الحبيس وشيطانه يمنيه ويداعب أحلامه ، أحلامه الحبيسة لسنوات طويلة ، ويروي له قصص السفر والترحال عبر الصحراء ويشوقه ، حتى إذا ما تملكت منه الرغبة ونوى إتباع شيطانه سقط على أرض الواقع ، فمن عاش حبيساً طويلاً لا يقدر أن يحيا خارج محبسه ، وإن تغلب هواه على قدره فلن يجد لديه من أدوات تناسب غايته المنشوده ... فقد ضمرت أدواته ولم تنمو له غيرها.


لمعت عينا مغامرنا مخاطباً شيطانه ... سأنضم لكم .... لكنى لا أعرف كيف أقود الدراجة وحتى أنني لا أملك واحدة.


عجيب هو الشيطان عندما يحتويك ويقنعك انك تستطيع وحتى لو كان ذلك أبعد ما يكون عن واقعك وعن ذاتك ... وكان ما كان ، شاب يبلغ من العمر 25 عاماً يحاول زميل له إسناده لتعليمه كيف يقود دراجته ... يا للعار عندما ترمقك ربة منزل في حي شعبي بعين السخرية الممزوجة بالعطف قائلة ... يا عين امك في السن ده وما بتعرفش تسوق عجله ... كانت هذه وحدها كفيلة برطمك بأرض الواقع في قوه كافية لإفساد الحلم .. حلم الخروج من الشرنقة وتحطيم جدران المحبس.


لكني أخبرتكم من قبل أن شيطاني كان بارعاً ... فابتسم ببساطه قائلا ، سوف نقوم برحلتنا ليلاً ، فلماذا لا نجعل التدريب بعد منتصف الليل ، في بساطة مذهلة احتوى موقفا كان ليفسد الخطة بأكملها ، وبالفعل تدربنا لمدة ثلاث ليال ... كان ابعد مسافة قدتها بالدراجة لا تتعدى ثلاث كيلومترات ... وبالرغم من ذلك اتفقنا على بدء الرحلة وتولى صاحبنا إستعارة دراجة من زميل لنا ولكنها غير معدة للرحلات وبالرغم من ذلك خططنا للقيام بالرحلة في أول ليلة قمرية .. وكانت خطتنا الذهاب إلى رأس سدر بالدراجات.


وتجهزنا للرحلة وليلة السفر تجمعنا عند بيت شيطاننا ... وبدأنا السير عند منتصف الليل على امل ان نكون عند الرست هاوس عند بزوغ الشمس ولكن القدر كان له رأي كلياً مختلف ... ولكن انتهى بالصورة بأعلى.


ورقة .. الترحال .. حلم ... محاولة ... إنكسار

تجمعنا عند بيت قائد الرحلة ، كنا ثلاثة إثنان على درجات مجهزة لسباق الدرجات وأنا على دراجة اقترضتها من صديق لنا ولكنها دراجة غير مجهزة للسفر ، وحتى يتضح الفرق أوضح أن الدراجة المجهزة مزودة بتروس لزيادة السرعة ومصنوعة من الألياف لتكون ذات وزن خفيف لا يستنذف طاقة الراكب وإطارتها مصنوعة من خامات تتحمل الحرارة المرتفعة والإحتكاك لفترات طويله ، أما الدراجة العادية فمصنوعة من الحديد لتحمل أثقال العمل اليومية ولتقليل سعرها مما يزيدها ثقلاً ويزيد متاعب راكبها وفي حالتى كمبتدئ كان الأمر بالفعل شاق وخاصة مع تحميل الطعام المعلب والمياه والملابس عليها ، كانت كالجبل الصغير الذي يجب ان تحركه وخاصة في مطالع الكباري والطرقات.


كانت الساعة تقترب من الحادية عشر مساءً عندما تجمعنا وبالفعل تحركنا والقمر بدراً في تمام الساعة الثانية عشر ، ومررنا بزميل رابع وكانت البداية الحقيقية للرحلة في تمام الساعة الثانية فجراً.


تحرك الفريق وهو مفعم بالأمل مغمور بالحماس الملتهب لشباب فى الخامسة والعشرين من عمرهم بأمل الوصول للرست هاوس ولكن الساعة العاشرة نظراً للتأخير ، قدنا لمسافة حوالى 5 كيلومترات في حماسة منقطعة النظير ، وانا اكاد أسابق الجميع ، فاليوم كان لي كالخروج من الشرنقة ، فقد نبتت لي أجنحة ، وها أنا ذا انتقل إلى كائن حر والقي جدران محبسي في جب النسيان ، ..... وفجأة إنكسر مقود دراجتى تحت ثقل الأحمال!


كانت الساعة حوالى الثالثة فجراً ، وكنا مازلنا في القاهرة ... كم هو رائع ذلك الحظ عندما يأتيك بتلك النتيجة في ذلك الوقت ، حيث الجميع نائمون والشوارع خالية في ذلك الوقت في التسعينات قبل أن ينقلب ليل القاهرة لسيرك لا يتوقف أبداً ، رائع رائع رائع ... هكذا تكون البدايات الموفقة.


نسيت أن اخبركم بكم المعارك التى خضتها مع والدي للسماح لي بالقيام بتلك المغامرة ، الآن اعود لهما بخفي حنين بعد أن رفض القدر أن يمنحني الفرصة كاملة واكتفي فقط ببداية غير مكتملة تكاد تجهض ذلك الحلم الذي داعب تلك النفس التواقة للفرار.


ورقة .. الترحال .. بداية الرحلة

ما هو شعورك عندما يدق بابك طارق حوالى الساعة الثالثة فجراً ، ليطلب منك ان تصلح له دراجته ، هذا بالفعل ما حدث بعد أن فشلت محاولات اصلاح الدراجة في محطة البنزين تلك الواقعة في شارع احمد بدوي وقتها ، وكان هناك عامل في البنزينة شاب صغير تطوع ان يدلنا على عجلاتي في الحي المجاور للبنزينة ، وذهب الركب المكون من ثلاث درجات أصحاء ودراجة تحتاج لتدخل جراحي من السيد العجلاتي في ذلك الوقت من الليل.


كان مشهد الجمع عند منزل العجلاتي في ذلك التوقيت كفيل بأن يثير خوفه ويبعثة من دفئ سريره متفضاً ، ولكن وياللعجب من هكذا انسان فسرعان ما تحول ذلك الخوف عندما رأى عامل البنزينة والذي يعرفه جيداً على ما يبدو إلى جشع ، فما كان منه الا ان عرض مقوداً قديما صدئاً في مقابل مبلغاً مرتفعاً من المال. لم يكن هناك أي خيار آخر غير قبول ذلك العرض السيئ ، وبالفعل قام الرجل بإصلاح الدراجة ، وانطلقنا بعدها لنعبر النفق في ذلك الشارع متوجهين إلى كوبري 6 اكتوبر لننزل شارع رمسيس متجهين إلى غمرة وقد بدأ ضوء النهار في السطوع.


بالطبع لا أخفيكم أني كنت الوحيد الذي يحتل مؤخرة الفريق بكل جدارة دائما ، يكفي انه عند بعض مطالع الكباري كنت انزل من على الدراجة لصعوبة الأمر وكذلك في مطلع طريق النصر بعد المنصة ، اخترقنا منطقة العباسية ومدينة نصر متوجهين إلى الكيلو 4.5 وهو بداية طريق السويس الصحراوي.


ما زلت احافظ على عادتي التى اكتسبتها اليوم واحتل مؤخرة الفريق ، ولكن جد شئ ، فقد اختفى أفراد الفريق تماماً وأصبحت وحيداً على الطريق ، ولمن لا يعرف ذلك الطريق الصحراوي فهو طريق في ذلك الوقت من العام 1995 كان أقل ما يوصف به بأنه طريق الموت ، نظراً لوجود محاجر على طول الطريق ، وخروج سيارات النقل الضخمة - التريلات - من الطرق الجانبية بشكل مفاجئ ومخيف ، بدأت بالفعل أشعر اني لن استطيع الإكمال بهذا الشكل وقد بدأت قواي تخور ويتضح ضعف عضلاتي نظراً لعدم ممارستى لتلك الرياضة قبل تلك الرحلة ، حتى بات خيار الرجوع لي أقرب من إكمال الرحلة ، وقد شعرت وقتها بمعاناة حقيقية وافتقدت لذة محبسي الذي غادرته مختاراً.


لما اقتربت الساعة من الثامنة صباحاً كنت قد وصلت للكيلو 132 طريق السويس وأسفل تلك اللوحة الضخمة المدون عليها ذلك وجدت الثلاثة مستلقون على الأرض نائمون فقد وصلوا تلك النقطة من فترة تبدو انا ليست قصيرة ومن ثم استلقوا للإستعداد لبقية الطريق ، وهو الجزء الأصعب ، حيث تبدأ المعاناة الحقيقية من بعد تلك اللوحة ، جلست معهم لتناول طعام الإفطار المكون من الجبن والمربى والتمور للحصول على طاقة كافية لإكمال الرحلة ، ولكن أعضاء الفريق بدأوا في جمع الأغراض لإستكمال الرحلة متناسيين انى لم اصل الا قبل خمس دقائق ، هنا وجدت نفسي مندفعاً لأجمع أغراضي ولكن ليس لإكمال الرحلة ولكن للرجوع بعد ان ادركت ان الفريق لن يمضي في الرحلة معاً ، وبعد نقاش مع الأعضاء الثلاثة تم الإتفاق معهم ان اقوم انا بايقاف سيارة لتقلني للرست هاوس عند الكيلو 76 مصطحباً كل الحقائب والأغراض وبذلك استطيع نيل قسط من الراحة كاف لإكمال الرحلة واكون قد ساعدتهم بأخذي الأغراض الخاصة بهم معي ، كان هذا الإقتراح مناسب لي تماماً


بالفعل اوقفت سيارة ربع نقل صغيرة واخذت الأغراض والحقائب ولما وصلت إلى الرست هاوس ، وجدت مكاناً مناسباً بجوار الرست هاوس عند الكيلو 76 قابع في الظل في ذلك الوقت من شهر يونيو فاشتريت زجاجة بيبسي مثلجاً ولم يكن هناك كانز بعد وأكلت بعض من التمور لإستعادة مخزوني من الطاقة ووضعت غطاءً على الأرض في ذلك المكان الذي يغطيه ظل المبنى نفسه ورحت في نوم عميق.


ورقة .. الترحال .. الصحراء



هل جربت مرة النزول ضيفاً على ذباب الصحراء ، كانت تلك تجربة قاسية وانا مجبر على وضع غطاء على جسمي بأكمله كحل أخير للهروب من تلك الذبابات اللزجة والتى يبدو أنها قد أدركت ان هذا الزائر صيد ثمين لا يجب التفريط فيه بسهولة ، كان الحر اسفل الغطاء ارحم بكثير من محاولة ابعاد تلك المخلوقات.

استيقظت على وصول احد الزملاء - أيمن - بعد حوالى ساعتين ، ولكن لم يكن هناك أثراً للإثنين الآخرين ، ارتاح أيمن وتناول غذاءه ثم خلد للنوم ، مر وقت طويل حتى اقترب العصر ولا يوجد أثر للدراجتين المتبقيتين ، وبدا أن القلق هو سيد الموقف ، ولكن بعد فترة ظهرت دراجة احمد في الأفق وكان المنظر غريب لدرجة إننا سقطنا أرضا من الضحك ، فقد كان احمد يربط بينه وبين دراجة وليد حبلاً ليسحبها بعد ان خارت قوى وليد ولم يعد قادراً على اكمال الطريق.

بوصول كامل الفريق إلى الإستراحة عند الكيلو 76 كان علينا ان نعد خطة باقى الرحلة وخاصة اننا تأخرنا لساعات عن الخطة الموضوعة ، وكان لذلك اثر سيء ، فلن نكون قادرين على الوصول لنفق الشهيد احمد حمدي قبل الليل والذي يفصل ضفتي القناة ، وكان النفق وقتها على ما اذكر يغلق ليلاُ ، فكان لابد من الوصول هناك باسرع وقت وتجهيز الفريق للنوم عند مدخل النفق.

إستراح باقي الأعضاء وعند الساعة الخامسة قررنا الإنطلاق ، كان مقدار النوم الذي نلته له تأثير عجيب فلقد تغير الوضع كلياً حتى صرت متقدماً على الفريق ولا اكاد أرى أي أثر للفريق خلفي ، وكنت في بداية الرحلة كلما مرت سيارة نقل كبيره من جواري يدفعني تيار الهواء ألى الخروج الى خارج الطريق ، لكنى في ذلك الوقت اكتشفت ان لو اسرعت كثيرا عندما تمر بي تلك الشاحنات سيدفعني تيار الهواء إلى الأمام ، وكان هذا الإكتشاف كفيل باحداث فارق رهيب في الأداء.

توقف الفريق لفترة راحة عند الكيلو 62 والتقطنا هذه الصورة




بعد ذلك تحرك الفريق وانا لا زلت متقدما ، وكانت الشمس على وشك الغروب عندما وصلت للكيلو 54 طريق السويس ولا اثر لباقي الفريق خلفي ، ولم يتبق على الغروب غير اقل من نصف الساعة ، قررت الوقوف عند ممر للسيول له حائط في انتظار وصول باقي الفريق حتى لا نضيع في الصحراء ، ولكن شاء الله ان تغرب الشمس وقبل حلول الظلام شاهدت دراجة أيمن من بعيد ، لما وصل ايمن قررنا ان ننتظر باقي الفريق هنا ، وجهزنا العدة للمبيت في هذا الموضع من الصحراء فلم يكن هناك اي أمل للوصول للنفق وخاصة أن الطريق ليلاً مميت.

في أثناء الإنتظار حدث ما كان متوقعاً فقد انقلبت سيارة في الصحراء على بعد مائة متر منا وتوقفت السيارات على جانبي الطريق للإنقاذ وذهبت أنا وايمن معهم وساعدنا في اخراج السيارة ممن الرمال ولم يكن هناك اصابات مميته ، بعد ذلك عدنا حيث تركنا اغراضنا في انتظار وصول الزميلين الآخرين ، احمد ووليد ، ولكن مر اكثر من ساعة ونحن نجلس في ظلام دامس ولا اثر لهما.

قرب الساعة العاشرة ليلاً توقفت امامنا حاملة وقود تعلقت الدراجتين على جوانبها في منظر ما زلت اتذكره جيداً وكان احمد ووليد يجلسان بجوار السائق ، لم يستطيعا اكمال الطريق ولم يجدا غير سيارة نقل السولار لتقلهما ، ويا له من منظر ، قمت وأيمن بتعليق دراجتينا وقفزنا الى داخل المقصورة بجوارهما وانطلق بنا السائق ولكن إلى جهة أخرى غير النفق.


ورقة .. الترحال .. السويس

لا تزال رائحة مقطورة الوقود ورائحة السولار تداعب أنفي كلما مر بذكرياتي تلك اللحظات ونحن نجلس متكومين بجوار السائق الذي أنقذنا من ليل الصحراء وتلك الدراجات وهي معلقة حول خزان الوقود ، يا الله وكأنى أعيش تلك اللحظة الآن.


لم يكن النفق هو اتجاه السائق ولكن كان السائق في طريقه إلى مدينة السويس ، تلك الواقعة على البحر الأحمر وبوابة قناة السويس الجنوبية ،  وكان قرار الفريق التوجه معه إلى مدينة السويس ، قاد السائق شاحنة الوقود في بطئ قاتل وبعد حوالى الساعة كنا على مشارف مدينة السويس ، شكرنا السائق ودفعنا له بعض النقود وقدنا دراجاتنا إلى داخل مدينة السويس وكان الوقت قد تخطى الثانية عشر ليلاً


في هذا الوقت من العام 1995 كان ذلك الوقت يعنى منتصف الليل وخلو الشوارع من المارة وإغلاق المحال التجارية الا قليلاً ، وأسقط في يدنا كيف نقضي هذه الليله ، وكان من المخطط قبل بدء الرحلة أننا سوف نقيم في بيوت الشباب ، وبحثنا عن بيت الشباب في السويس وعندما وصلنا إليه تبين أنه مغلق ، ووقع الفريق في معضلة حقيقة.


طفنا شوارع السويس بالدراجات وسألنا عن احد الفنادق ، وعرفنا أننا يمكننا المبيت في قرية الحجاج ، تلك المخصصة لإقامة حجاج البواخر في موسم الحج |،  وكان وقتها هناك قريتيتن احدهما تقع على الممر الملاحي ومتدنية المستوى والسعر واخرى مجهزة كالفنادق ولكن سعرها مرتفعا  ، وفضلنا وقتها المبيت في تلك المتدنية السعر والتى تقع على الممر الملاحى لإنخفاض سعر المبيت بها ، وكانت عبارة عن عنابر طويلة جدا مليئة بالأسرة والأهم من ذلك كانت مزودة بحمامات ومياه ساخنة ، كم هو ممتع ذلك الحمام الساخن وتلك المياة الهادرة ترطم جسدك في عنف مزيحة عنه عناء وتعب القيادة  كم هو نعمة ذلك الحمام الساخن بعد عناء تلك الرحلة التى لم اكن افكر يوماً اني اقوم بها ، بعد الحمام الساخن سقطنا كلنا نائمين كالقتلى


نسيت أن اخبركم ان ذلك اليوم كان يوم الخميس ، وفي الصباح تجمعنا في حديقة القرية وصلينا الصبح وأفطرنا ومن ثم اخذنا ندور في شوارع المدينة قليلاً ، وكانت تلك أول مرة لي بمدينة السويس ،  وكانت السويس نظراً لصغيرها تتمتع بخاصية تبادل الإخبار بين الجميع بسرعة لذا شاع خبر وصول الفريق بالدراجات إلى السويس ، وكنا كلما مررنا ببعض التجمعات يوقفونا ليسالونا عن الرحلة ويتفحصون الدراجات وخاصة دراجتى وتعلو وجوههم الدهشة كيف قدت تلك الدراجة من القاهرة حتى السويس


صلينا الجمعه وجلسنا في جوار المسجد على الرصيف وبدأ بعض سيدات المنازل يرسلون إلينا بماء وطعام بعد ان شاع خبرنا ، وبعد ذلك جلس الفريق ليتناقش في الخطوة القادمة واين تكون محطتنا



ورقة .. الترحال .. نهاية الرحلة

بعد الصلاة وتناول الغداء جلس الفريق ليناقش الخطوة القادمة ، كانت وجهة الرحلة الأولى هي الوصول إلى رأس سدر وهي تبعد حوالى 60 كيلو من نفق الشهيد احمد حمدي ، فكان يجب أولاً الوصول للنفق ومن ثم اجتيازه شرقاً ثم بعد ذلك السير مع الطريق الساحلي جنوبا حتى الوصول إلى رأس سدر كما يتضح من الخريطة التالية




كانت احداث اليوم السابق محل النقاش وخاصة ان الفريق قد وضح عدم قدرته على قيادة الدراجة لمسافة طويلة كما كان مخطط لذلك ، وانقسم الفريق لرأيين ، الأول كان مع اكمال الرحلة بالدراجة وكنت متزعم هذا الفريق ، يا للعجب تغيرت المعطيات عن بداية الرحلة ومن ثم تغيرت التوجهات ، لكن الفريق الآخر كان يرى ان المسافة طويلة لأن الفريق عليه الوصول إلى مدخل النفق وهو بعيد عن مدينة السويس ومن ثم عبور النفق وقيادة الدراجة لمسافة 60 كيلو أخرى ، ولن يكون بمقدور الفريق انجاز ذلك ، لذا رأى هذا الفريق استخدام الأتوبيس السياحي من محطة النقل الجماعي ، وتم الإستقرار على هذا الرأي


توجه الفريق إلى محطة النقل الجماعي وهناك أمام شباك التذاكر اختلف الفريق بشكل حاد مرة اخرى على انتظار الأتوبيس أو استقلال سيارة ميكروباص خاصة ووصل الخلاف لدرجة لم اعد استطيع معها صبراً وخاصة مع تمسك كل برأيه ، فوضعت الدراجة في أتوبيس كان متوجهاً للقاهرة وودعت الفريق وقفلت عائداً


لما وصلت القاهرة ذهبت لإرجاع الدراجة لصديقي الذي اقترضتها منه ، وأسمه أيمن أيضا ، لم يصدق أيمن أنى قدت الدراجة لتلك المسافة وطلب منى أن أريه اني بالفعل استطيع قيادة الدراجة ، وبالفعل قدتها أمامه ، ولكن عند الدوران لم استطع السيطرة على الدراجة وسقطت ، وسط ضحكات الجميع ، وهنا تذكرت اني قدت الدراجة كل تلك المسافة بدون الدوران بها.


وبذلك تنتهي رحلتى الأولى والتى فتحت الطريق للخروج من المحبس وتلتها رحلات أخرى دونتها على أوراقي المتناثرة وسنعرض لبعضها لاحقاً لما فيها من احداث غريبة وأخرى مجنونة وعابثة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق